شريف القصاص
في عالم يضجّ بالمثيرات الحسيّة، وُلدت امرأة قُدّر لها أن تسمع الصمت، ترى الظلام المطلق، تشعر بلا شيء، تشم بأنفها روائح اشياء لا يستطيع البشر شمها، تفوق ذلك ما تملكه بعض الحيوانات والتي تشم رائحة الخوف التي تصدر عنك.
انها لورا مايك هارت، التي وُلدت في مدينة تورونتو الكندية عام 1978، وكانت منذ طفولتها تحمل حاسة شم خارقة، تفوق الوصف والاحتمال، بدء الأمر بالتحسس الشديد الروائح حتى أن أسرتها امتنعت عن استخدام أبسط أنواع العطور، الصابون المستخدم كان من نوع خاص بلا رائحة، الكمامة على الانف كانت جزء من وجهها حتى أثناء النوم.
في الثامنة من عمرها، أخبرت والدتها أن رائحة جدّتها “غريبة”، تشبه المعدن المحترق. بعد أسبوعٍ فقط، شُخّصت الجدة بسرطان الرئة.
وفي الرابعة عشرة، لاحظت لورا رائحة “معدنية باردة” تفوح من زميل لها في المدرسة، وقالت له:
“أنت خائف من شيء ما.”
أقرّ الفتى بعدها بتعرّضه للتنمّر وتفكيره في الهروب من المنزل.
كانت لورا تشمّ ما لا يُرى، وتُدرك ما لا يُقال.
التحقت لورا بكلية علم النفس، وهناك بدأت تكتشف أن قدرتها ليست خيالًا، بل ظاهرة نادرة، ذات أبعاد علمية عميقة.
في عام 2000، وأثناء تدريبها في عيادة نفسية، لاحظت أنفاس أحد الأطفال تعكس رائحةً غريبة، مزيجًا من الجبن المعتّق والأمونيا.
قالت للطبيب المعالج:
“هذه رائحة حمض الإيزوفاليريك… وغالبًا، الطفل يُعاني من اكتئاب شديد، بل ربما يُفكّر في الانتحار.”
لم يُصدّق الطبيب، لكن الطفل اعترف لاحقًا بنيّته الانتحار.
والأكثر إدهاشًا:
لورا شمّت رائحة الأمونيا من بشرته، وأدركت أنه يعاني من بداية فشل كلوي، وهو ما أكّدته الفحوصات لاحقًا.
الأم انهارت بالبكاء، واعترفت أنهم كانوا يُخفون حقيقة مرضه عنه… لكن يبدو أن جسده لم يُخفِ شيئًا عن لورا.
بدأت لورا تلفت أنظار العلماء والمراكز البحثية.
ففي عام 2005، استعانت بها مستشفى كندية لتشخيص مرضى لا يتحملون أشعة أو تحاليل دقيقة.
من خلال الشم فقط، رجّحت أن أحد المرضى مصاب بسرطان البنكرياس،
وبالفعل، أكّدت الفحوصات ما قالته أنفها.
بل وتفوّقت على الأجهزة الطبية في تمييز روائح العرق الناتجة عن السرطان، أو الخوف، أو القلق، أو الكذب.
في إحدى التجارب، نجحت في التمييز بين عينات لأشخاص يعانون من أمراض مزمنة، وآخرين أصحاء بنسبة دقة تجاوزت 90%.
العلماء وجدوا أن لورا تمتلك نشاطًا غير طبيعي في “البصلة الشمية”، وهي مركز معالجة الروائح في الدماغ،
وأن هذا النشاط متّصل اتصالًا مباشرًا بـ “اللوزة الدماغية” المسؤولة عن المشاعر…
ما جعل أنفها جهازًا عاطفيًا حساسًا يكشف الخوف، الحب، الحزن، الغضب، وحتى الكذب.
مع مرور السنوات، تحوّلت الموهبة من نعمة إلى عذاب.
باتت لورا تعاني من ما يُعرف بـ “فرط الشم”، وهي حالة تجعل الإنسان شديد الحساسية تجاه الروائح، حتى تلك التي لا يشعر بها معظم الناس.
لم تعد روائح البنزين، العطور، الصابون تُسبّب لها صداعًا وغثيانًا فقط، بل وصل الأمر للبقاء تحت عناية مركزة وإجراء تنفس صناعي.
الروائح العاطفية أصبحت تطاردها في كل مكان.
شمّت في مرضاها مشاعر الخوف من الموت، والكره المكبوت، والكذب المُنمّق، الحنين إلى ذكريات الفقد، شمت رائحة دموع القهر، رائحة افرازات الغدد الصماء، والتفريق بين مشاعر الفرح، والغضب التفائل واليأس وفرقت بين مشاعر الناس حولها، بين من يشفق عليها وبين من يراها وحش يجب الفرار منه حتى لا يفتش في صندوق أسراره، فهي تتسلل بلا استأذان ليس فقط إلى شعورك، وانما تسمع صوت ضميرك، تقتحم عقلهم الباطن، لم تخير في أن تكون أنفها محقق خاص لا تغيب عنه قضية، قاضي يحكم على خفايا البشر، تهديد خطير لمصطلحات ستخلوا منها المعاجم مثل السر، والكتمان.
كانت تتجنب أن تقترب من ابنتها الصغيرة “صوفيا” خوفًا من أن تشم منهارائحة تزمر أو بغض لها، لم تكن أن تحتمل أن تعرف اسرار ابنتها التى تكسر قلبها، لم تنتبه ذات ليله واشتاقت لها تابعتها من بعيد وحين لا حظت صوفيا نظرات امها، ذلك اضطربت ولم تستطع أن تمنع رائحة الخوف، بل والرعب، بكت وقررت أن تعاقب نفسها وتحرم نفسها من ابنتها خوفًا عليها.
شمّت في زوجها “إريك” حزنًا لم يعبّر عنه، فاتهمته بالكتمان.
برر لها وقص لها الف قصة شمت منه وهو يقولها يبرر لها حزنه رائحة واحدة، الكذب، وكانت ترد عليه في كل مرة بنظرة غصب
“كنت أشعر أنني أعيش مع كائن غير بشري.”
هكذا وصفها زوجها لاحقًا.
هرب الناس من حولها.
ارتدى البعض مزيلات عرق خاصّة لإخفاء مشاعرهم.
لكنّها كانت تعرف، دائمًا تعرف، وهذا ما دمّر حياتها الاجتماعية.
في عام 2017، لجأت لورا للعيش في كوخ معزول وسط الغابات، لتجاور حيوانات عجماء، أرادت أن تبتعد عن البشر… وعن مشاعرهم المعقدة، لتنعم بالسكينة، فغاية ما تحكيه روائح تفوح من الحيوان ، غرائزهم البسيطة من جوع أو عطش، شهوة، لكنها أيضا لم تنعم بالسكينة شمّت رائحة مرض في جسد غزال، أو رائحة مصدرها أرنب يحتضر،
كانت تقول لطبيبها:
“أريد أن أفقد حاسة الشم… أرجوك.”
وفي عام 2021، وبينما كانت وحيدة في بيتها الريفي، توفيت بسكتة دماغية، يُعتقد أنها ناتجة عن الإجهاد النفسي المزمن،
عن عمرٍ لم يتجاوز الثالثة والأربعين.
لقد منحت لورا قدرة خارقة،
لكنّها لم تمنح الخيار في كيفية استخدامها…
ولا الحماية من آثارها الجانبية.
وهنا تأتي الحقيقة العميقة:
الكمال… ليس نعمة. بل لعنة حين يأتي دون حدود.
نقصك البشري… ضعفك… تقصيرك…
هي ما تجعلك إنسانًا.
فالإنسان لا يُطيق أن يعلم كل شيء، أو يشعر بكل شيء، أو يرى ما لا يُقال.
أن تمتلك قدرة خارقة، يعني أن تتحمّل وجعًا لا يراه الآخرون.
فلا تتمنّ أن تعرف نوايا الناس،
ولا أن تشمّ كذبهم،
ولا أن تشعر بألمهم قبل أن يعترفوا به.
لأنك وقتها… لن تستطيع أن تحبهم كما هم، بل كما تراهم في أعماقهم.
وأخيرًا…
صديقي، إن ضعفك ليس عيبًا،
بل هو أعظم حماية ربانية من الإدراك الزائد عن الحاجة.
تعامل مع الناس بما يُظهرونه،
ولا تحاول اقتحام صناديقهم المغلقة،
فأنت لا تدري ما الذي بداخلها…
وربما، لا تطيق ما قد تجده.
احمد الله على نقصك…
ففي نقصك غاية كمالك البشري