بقلم :ضياء علي الدعاس
كان ثمة صمتٌ خفيف ينساب بين الأشياء، كأن العالم يتهيأ لشيء لا يريد الإفصاح عنه بعد…الهواء صار أبرد بدرجة لا تُلاحظ، والضوء يميل إلى العتمة دون أن يفقد لمعانه تمامًا…وحتى الخطوات المعتادة على الأرصفة بدت كأنها تلامس زمنًا آخر تحتها… زمنًا بطيئًا، يجرّ ظلاله خلفه بتؤدة غامضة.
وفي وسط هذا التبدل الهامس، شعرت أن الأوراق لم تعد أوراقًا فقط، بل علامات صغيرة على تغير لا يرتفع صوته…شيء يتحرك في العمق، كما لو أن الحياة نفسها تتهيأ لخفض ستارة قديمة، واستبدالها بأفق آخر لا نراه بعد… لكننا نحسه، دون أن نقول كلمة واحدة.
الخريف ليس فصلًا من فصول الطبيعة، بل فصل من فصول الروح.. فيه يشعر الإنسان أنه يعود قليلًا إلى ذاته، ويستعيد ذلك القدر الضئيل من الحكمة الذي يضيع بين صخب الصيف وبرودة الشتاء..كأن هذا الفصل جاء ليذكرنا بأن الجمال ليس ضحكة فقط، بل هو أيضًا دمعة تنحدر ببطء… تمامًا كما تنحدر ورقة صفراء من غصن تعب.
ولعل أعظم ما في الخريف أنه يعلمنا معنى الانفصال الرحيم؛ كيف تترك الشجرة أوراقها دون ضجيج، ودون أن تحتج على الفقد… فهو فقد من أجل ميلاد آخر، ومسافة قصيرة حتى يجيء الربيع جديدًا في جذرها… وكأن في هذا المشهد رسالة خفيّة تقول إنّ بعض السقوط بداية.
وللورقة حين تتهاوى فلسفة لا يدركها إلا من ذاق خريفًا داخليًا مرة واحدة على الأقل،تلك اللحظات التي يشعر فيها المرء أن شيئًا ما في داخله ينفصل عنه ببطء؛ عادة قديمة، ذكرى أثقلت، أو علاقة لم تعد صالحة للحياة…كلها أوراق كان لا بد أن تسقط، لأن الروح شأنها شأن الشجرة لا تحيا بلا تجديد
وفي مساءات الخريف، يتبدل لون العالم… ليس لأن الشجر تغير فحسب، بل لأن الإنسان نفسه يصبح أكثر شفافية…الوهم ينحسر، والكلام يلين، والقلب يتذكر أنه ليس حجرًا؛ الخريف هو تلك اللحظة بين الربيع والشتاء، اللحظة التي يصغي فيها الكون إلى نبضك، ويسألك بصمت…ما الذي آن أوانه ليسقط؟
… ومع ذلك، لا أعرف لماذا يترك الخريف في نفسي شعورًا يشبه العودة المترددة إلى بيت لم أعُد أتذكره جيدًا.
المشاهد كلها.. سقوط الأوراق، برودة المساء، رائحة التراب… إنها ليست مجرد ظواهر طبيعية، بل إشارات يبعثها الكون لمن تعب قلبه ولم يعد يبوح.
ربما لهذا السبب أشعر دائمًا، في هذا الفصل بالذات، أن شيئًا غير مفهوم يتحرك في أعماقي؛ حزن صغير لا أعرف مصدره، وخوف هادئ من أن يكون ما يسقط حولي ليس أوراقًا فقط… بل أجزاء مني كنت أظنها ثابتة..ومع ذلك، لا أمد يدي لالتقاط شيء،أراقب فحسب، وأحاول أن أصدق أن هذا السقوط له ضرورة ما، حتى لو لم أفهمها الآن.
الخريف لا يقدم إجابات، ولا يعد بشيء،هو فقط يمر..ويتركك مع إحساس غامض أنك تغيّرت قليلًا ،للأفضل ربما، أو للعكس لكنك تغيرت على أي حال…وحين تنظر إلى الطريق الممتد أمامك، لا ترى ملامحه بوضوح… ترى فقط ضبابًا خفيفًا، وورقة صفراء تدور في الهواء، وتفكر دون أن تقولها بصوت مسموع:
هل سأجد نفسي في نهاية هذا الطريق… أم سأفقد شيئًا آخر قبل أن أصل؟
ويتركك الخريف عند هذا السؤال…
ثم يمضي.




