روان خباز الحلبي
“دِمشقيةَ”
للمرة الثانية على التوالي، الموقف ذاته يتكرر، نفس الموقف
بنفس الشعور والإحساس ولكن يزداد ألمًا وقهرًا.
لأعلم ماذا اكتب أقسم برب السماء والأرض ثمانية وعشرون حرفًا تبعثرُ بوصف مشاعري، كُل حرف يدفع الأخر عله يستطيع كبح تلك المشاعر قليلًا، أو التخفيف من نار حرقتها ونيران ألمها.
في السابع عشر من مارس ألفان وسبع عشر، كان أخر يومًا لي في وطني، تركت قلبي وأخذت جثة تلتقط أنفاسها من بقايا الذكريات العالقة في العطور والزهور وبعض من أقمشة الأحبة.
كيف لشخص أن يُجبر على هجران أحبته طوعًا، إنها الحرب ياسادة ليست لها سلطة إلا على الضعفاء خالين الوفاض،
إنه القدر ولا اعتراض على حكمة رب العباد.
أكثر مايؤلمني في ذلك ترى ماذا ينتظرني هناك؟!
هلع وخوف يحتل ضلوعي، العبرات احتلت عيناي لا مفر منها كل يوم تأبى أن تتركني وحيدة، هي أيضًا ستخونني يومًا وتتخلى عني كما فعل الجميع بالتأكيد.
بلدٌا جديدة ومستقبل جديد، وحيدة عُدت إلى نقطة الصفر لا أصدقاء لا معارف لا خِلان، وحدي في تلك البلاد الغريبة، البرد يحتل قلبي بالرغم من حرارة الطقس، عيوني لا ترى النور بالرغم من طلوع الشمس، عدت لنقطة البداية شخص سُلب منه ماضية وأُجبر على تأسيس حاضر ليكون ماضِ له.
سبع سنين الوحدة كانت تغزو قلبي، صديقتي المقربة لي كانت في وطني الحبيب، سبع سنين عجزت الظروف على تفرقتنا أو تهدم علاقتنا، كلا بل القوة كانت تكسوها بالرغم من بعدنا، يقولون البعيد عن العين بعيد عن القلب، ولكن كذبُ أقسم بالله أغلب الأوقات البعيد عن العين هو الذي يسكن ضلوع القلب ويحتله، تشعر بي بدون أن أتكلم، تتحمل
موجات جنوني، وأنا كذلك علاقة لا حقد فيها ولا مصلحة كل ما يجمعنا هو المحبة والأخوة، لا أنكر أنه في كثير من الأحيان نبكي شوقًا لبعضنا، لذكرياتنا، لحضنا الدفئ الذي يخفف عنا عبئ الحياة ومرها، نصبر نفسنا بالدعاء عل الأيام تحن علينا ونلتقي ونحضن بعنا بعد ذلك العناء.
سبع سنين بدون أصدقاء مرت كألف سنة، من قال أن لقاء الأصدقاء رفاهية، كذب من قال ذلك، لقاء الأصدقاء إحتياج، اللجوء إلى حضنهم، الشعور بدفء كلامهم وصدقه، المواقف وحدها تُثبت صدق الصديق.
كونت العديد من الصداقات ولكنها لم تدم كثيرًا لأسباب لا اريد ذكرها، لست ملاك بالطبع وأيضًا لستُ شيطان، أخطا فأعتذر، أحب فأعفوا، أخلص وأسامح، أفديكِ بروحي لكن استحقي ذلك الحب، قديره واحترميه، عندما تحتاجيني ستجديني، وقعتي سأسندك، فشلتي سأدعمك، حزنتي سأفرحك، ساكون معك بالضراء قبل الشراء أعدك.
بعد سبع سنين شاء القدر على أن أتعرف على تلك الصديقة
التي تشبه الأولى التي ودعتها، حمايتها طيبتها، طفولتها،
نتشابه بكل شيء الأفكار المزاج الجنون، خلال سنة قصيرة
كونا الكثير من الذكريات معًا، ولكن عدنا إلى نقطة البداية من جديد، إنه الوداع المقيت، دقت ساعة الرحيل، ساعة سفرها، كنت اعلم ذلك منذ إن تعرفنا ولكني لم أظنه بتلك السرعة سوف يأتي.
خبر سفرها كالصاعقة على قلب بالرغم من ساعدتي لها لأنه كان من أمنياتها إلا أنه كان محزن لي فراقها، يؤسفني وداعها، لا أعلم لما مصيري ذلك، أن أكون علاقة متينة قوية جميلة فيها كل صفات الصداقة التي تحلم بها الفتيات ولكن الوداع نهايتها، وكأن الفراق ذلك اللص اللعين يغار من رؤيتي سعيدة مع أصدقائي وكأنهم من أفراد عائلته فينتظرني
حتى أتعلق بهم ويأتي من دون سابق إنذار ويسرقهم.
قبح الله وجه الفراق وأزال عقبات اللقاء وأبعد الله الشوق
وأحل مكانه العناق.
هذا درس عظيم لي كي لا تتعلق مرة آخرى، سأجعلهم عابرون كاغيرهم، فلا طاقة لي على الفراق ولا قوة لي على الشوق، فالشوق شق ضلوعي، والفراق مزق أعضائي،
هل لي أن القاك ياوطني وأعيد عهدنا كالماضي، حسرة وحيدة تأكلني، أخاف أن أموت في الغربة ويدفن جثماني في
تراب البلد الغريب لا ترابي، ويعود الجميع إلى وطني وأعود وحيدة بدون أحبابي، لا أهل لا أصحاب تَزور تربتي، ويرون ترابي، أخشى الوحدة في غربتي وأهلي لا يزورن محاربي.