روان خباز الحلبي
دِمشقيةَ
كلمة ذاتها تترد على مسامع الجميع من قِبل ذاتهم، كلمات لطالما أثارت الجرح في أنفسنا، أصوات لطالما مزقت قلوبنا وأحشائنا، أرحلوا، عودوا إلى بلدكم، أعيدوا بناء عمرانكم، هاجروا إلى وطنكم فهو الأولى باحتضانكم، كمية ثورة وكره
حقد دفين في قلوبهم ليس له مثيل، وكأننا نعيش من مالهم أو نسرق أموالهم، الرزاق واحد، والرب موجود هو علام الغيوب وما خفي في القلوب وما ظهر.
عودة بسيطة إلى الحقبة الزمنية القديمة قليلًا إلى بلد الياسمين، إلى جنة الله على الأرض، ضمت الجميع بين أحضانها، لم تفرق بين عربي أو عجمي، شعبها تخلى عن منزله لأشقائه المتضررين، الكثير والكثير من القصص التي يجهلها الناس أو يتجاهلونها عنوة، ابحثوا عن الأحداث حقًا التاريخ سيتكلم عنا ولسنا نحن، نحن نتكلم بلسان التاريخ.
تكالبت علينا العُربان، باعوا الأخوة والنخوة، وانجرفوا لطريق العدوان، لا أعمم كلامي مؤكدا ذلك، كل شخص يعرف قدره ويعلم ما يُخفي ويظهر يقولون الخير يخص والشر يعم لست أعلم هل هو حقًا كذلك أم محض من الخيال؟
حلم جميل أستيقظنا منه على كابوس لا نهاية له، لكل عائلة حكاية مختلفة عن الأخرى، لكل مهاجر طريق شائك مليئ بالدم والمخاطر محاط برائحة الموت، هل يُعقل أن يهرب
الإنسان من الموت إلى أحضان الموت؟
نعم هذا يحدث كثيرًا، شخص يهرب من عُمق الأزمة لأحضان السفر على أمل عيش حياة جديدة، لكن يرى نفسه الموت يلتقط أنفاسه الأخيرة، وأي طريقة للموت تحبون أن أبدأ بها هل طريق البحر؟ طريق الغابة أم طريق الصحراء؟ أم الهواء؟ اختلفت الطرق والموت واحد لا خلاف في ذلك.
حضن الموت الأول:
من منا لم يرى جمال الطبيعة الخلابة، جمال الغابة والأشجار، جمال الهدوء ورائحة عبق الأمطار، منظر جميل جدًا لا أنكر ذلك، ولكن كيف يكون شعور الإنسان عندما يخرج لطريق الغابة مع أشخاص يجهل خيرهم من شرهم، على طريق الموت المحاط بالمخاطر، عائلات تسير مع أطفالهم وشبابهم
صغارهم وكبارهم فارّين من أحضان الحرب على أمل العيش بسلام من جديد، على أمل حياة كريمة لاضرر فيها ولا ضِيرار،
منهم من تاه في أحضان الطبيعة ولاقاه حتفه من الرعب والخوف، منهم من مات من الجوع والعطش، ومنهم من تم قتله وسرقت أعضائه ورميه جثه هامدة وكأن شيء لم يكن.
حضن الموت الثاني:
ذلك البحر الجميل عند النظر إليه تنسى همومك، تتحرك أمواجه كأنها معزوفة متناغمه شديدة الجمال، ولكن هل تعلم أن وراء ذلك الجمال والنور جانب شديد الظلام بل حالك الظلام والسوء، منهم من خاف من سلك طريقة الغابة قالوا البحر علينا أرحم، ولكن هيهات لا رحمة في ذلك،
ذلك البحر الطماع ينهش جثث العابرين فيه ويبتلعهم ويقول هل من مزيد، مئات وملايين ومليارات الجثث الغارقة والمفقودة والتائه في أحضان ذلك البحر الغدار، منهم من مات غرقًا، والأخر مات من شدة البرد والجوع، والأخر كان موته من شدة الرعب والخوف ليس على نفسه، لا بل على عائلته وأحبائه الذين يفقدهم واحدًا تلوا الآخر أمام ناظريه، ومؤكدًا أن أصحاب النفوس الشريرة لن يتركوا الأمر سهوًا، وسيخطفوا ويقتلوا ويعتدوا، ويسرقون الأعضاء ويعودون لممارسة حياتهم الطبيعة على أكمل وجه، يرتدون رداء الملاك صباحًا وفي المساء يخلعونه ليظهر الشيطان المستوحش في حلكة الليل يمارس ألاعيبه على الضعفاء الأبرياء.
حضن الموت الثالث:
رمال كالذهب تتمايل على ألحان الهواء عند النظر إليها من بعيد كم هي جميلة تلك الصحراء الذهبية، تُشع بالطاقة القوية، ولكن كما أخبرتكم سابقًا لكل ملاك وجه شيطاني يدفنه بين طياته، طريق الموت الجديد صحراء خالية من كل شيء عدا الرعب والخوف والظلام الدامس، أصوات الحيوانات البرية تدب الرعب في قلوب الكبار قبل الصغار، إن لم تمت من الرعب ستموت من الجوع، وإن لم تمت من الجوع ستموت على يد حيوان مفترس يقطع جسدك إلى أربًا، وإن شاء القدر ونجوت منهم، سيكون حتفك على يد ذلك المُهرب الذي يخدعك بكلامه المعسول لتكون بالنهاية جثة هامدة مسلوبة الأعضاء والروح.
كل رحله من تلك الرحلات قد تستغرق أيامًا أو أسابيع أو شهور، أنت وحظك وإن كان حظك جميلًا جدًا، قد تنجوا وتصل إلى تلك البلد التي بنيت أحلامك على أمالها، ستصل وروحك تتمزق إلى أشلاء، مذهول من هول الصدمات التي تكالبت عليك من جميع الجهات، وبعد العناء والشقاء تبدأ رحلة أزمة الإنتماء.
” ما فيّ إنتمي للويل طب قول أنتمي لوين؟
ما لي أرض يمّه رفضتني السماء يا غيم
هي أزمة انتماء شاب الشعر يمّه
صرنا عبئ ع الناس وكل الأرض رفضتنا
قال ضايع بين البلاد حرب وجوانا البلاء
لاجئ بأرض الله والحق حق أنا كذاب “
من مات منهم نجا ومن عاش منهم مات، مابعد رحله الموت قد وصل كُل منهم للبلد الذي يريده، ولكن منهم من ماتت عائلته أمامه، والأخر فقد قلبه، منهم من سرقت حياته أمام عينه، والأخر قد سلب شيء عزيز عليه برغم من هروبهم من الموت إلا أن أتباعهم لم يرأفون بحالهم.
ظلام حالك حولهم بالرغم من بزوغ الشمس، برودة تنهش جسدهم بالرغم من حرارة الجو ولكن لم يعلموا أنه شعور الغربة، هكذا البرد يعتلي أطرافك تلتفت حولك بكل خوف وقلق علّك تلمح ظل أمان يُنسيك ليالي الحرمان من النوم والخوف محيط بكل زمان ومكان.
لو ظللت أكتب سنواتٍ وسنوات عن المعاناة، والمواقف، والأزمات، والهلاك، الذي عاشه هذا الشعب المناضل، لجفت الأقلام، وأنتهت الأوراق، ولم تنتهي قصص شعب الياسمين.
رفقًا بقلوبهم، رفقًا بمشاعرهم، أزمة الإنتماء مزقتهم لأشلاء، هل تدرك معنى أن تستوحش كل شيء الأيام، الرفاق، الأماكن، الأشخاص، أن تشعر نفسك شيء لا ينتمي لأي شيء.
شيء مختلف عن المكان، وكأنك تزرع ورود وسط حقول الصبار، لك أن تتخيل أن تعيش وسط عائلة أنت لست طفلهم، كيف ستشعر ؟كيف سوف تتعامل؟ وبالنهاية ستشعر بعدم الإنتماء والرحيل، ولكن إلى أين؟ إلى وطن قد اندثر منذ زمن، ولم يعد له وجود حتى وإن كانت الأماكن موجودة، فمن يعيد لنا الرفاق؟
في كل عائلة هناك فقيد، هناك مغترب، هناك مصاب إما جسديًا أو نفسيًا، وهناك مفقُد أشدهم ألمًا.
فأنت لا تعلم هل تتمسك بأمل عودته؟ أم تواسي نفسك بتعزيتها وحسبانًا عند رب العباد، لكُل مغترب حياتك فرفقًا بحالهم،
لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى.
نزار_قباني
هذي دمشق.. وهذي الكأس والراح إني أحب… وبعـض الحـب ذباح
أنا الدمشقي.. لو شرحتم جسدي لسـال منه عناقيـدٌ.. وتفـاح
و لو فتحـتم شراييني بمديتكـم سمعتم في دمي أصوات من راحوا
زراعة القلب.. تشفي بعض من عشقوا وما لقلـبي –إذا أحببـت- جـراح
مآذن الشـام تبكـي إذ تعانقـني و للمـآذن.. كالأشجار.. أرواح
هنا جذوري.. هنا أرضي … هنا لغـتي فكيف أوضح؟ هل في العشق إيضاح؟