✍️ يوحنا عزمي
في مشهد لم تعرفه شوارعها منذ عقود ، ولأسباب تتجاوز مجرد خلاف سياسي عابر ، تقف الولايات المتحدة الأمريكية اليوم أمام لحظة مصيرية قد تحدد مستقبل الجمهورية كلها. لم تعد الأزمة مجرد جدل حول الهجرة أو صراع بين التيارين اليميني والليبرالي بل تحولت إلى اختبار وجودي لمعنى الدولة الفيدرالية وحدود سلطة الحكومة المركزية أمام حكومات الولايات.
من لوس أنجلوس إلى واشنطن ، ومن مكاتب البيت الأبيض إلى شوارع كاليفورنيا الملتهبة ، تتصاعد أزمة قد تكون الأخطر منذ الحرب الأهلية الأولى .. ومع كل ساعة تمر ، يصبح السؤال أكثر إلحاحاً :
هل تتجه أمريكا بالفعل نحو صدام داخلي قد يعصف بوحدتها؟ أم أن هناك من يستطيع إنقاذها في اللحظة الأخيرة؟
شرارة الأزمة : حملة ترامب ضد المهاجرين
الأحداث الأخيرة انطلقت بقرار مفاجئ من إدارة ترامب يقضي بشن حملات اعتقال واسعة للمهاجرين غير الشرعيين في مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا ، إحدى أكثر الولايات ليبرالية وتنوعاً سكانياً.
القوات الفيدرالية ، تحت إشراف وكالة ICE ، داهمت خلال أسبوع عشرات المتاجر والمطاعم ومحلات الملابس والدوناتس، وأسفرت العمليات عن اعتقال أكثر من 118 شخصاً، بينهم 44 في يوم واحد فقط.
لكن ما صدم سكان الولاية لم يكن حجم الاعتقالات فحسب ، بل الطريقة التي نُفذت بها :
عربات مدرعة ، قوات أمن فدرالية مدججة بالسلاح ، مداهمات مفاجئة بلا سابق إنذار .. مشاهد أقرب لأفلام هوليود أو لدول قمعية لطالما انتقدتها واشنطن نفسها.
انفجار الشارع : لوس أنجلوس تشتعل
كاليفورنيا ، الولاية التي يعيش فيها أكثر من 70% من سكانها من أصول لاتينية ومهاجرة ، لم تحتمل هذا الاستفزاز. في ساعات قليلة ، تحولت شوارع لوس أنجلوس إلى ساحة غضب عارم.
خرج الآلاف في مظاهرات لم تعرفها أمريكا منذ احتجاجات جورج فلويد عام 2020. وسرعان ما تحولت المظاهرات إلى مواجهات دامية مع الشرطة وقوات مكافحة الشغب :
قنابل مولوتوف ، إشعال سيارات ، ألعاب نارية تُطلق نحو القوات الأمنية … مشاهد تعيد للأذهان بدايات الثورات الشعبية في دول أخرى.
تدخل غير مسبوق من ترامب .. والجيش إلى الشوارع
الرئيس ترامب ، في خطوة غير معهودة ، أمر بإرسال 2000 جندي من الحرس الوطني إلى لوس أنجلوس دون استشارة حاكم الولاية مستنداً إلى قانون Title 10 الذي يسمح له بتجاوز سلطة حكام الولايات في حالات الطوارئ.
بل والأخطر أن وزير الدفاع الأمريكي صرح بإمكانية نشر وحدات من مشاة البحرية (المارينز) المدربين على خوض الحروب النظامية لمواجهة المدنيين في شوارع مدينة أمريكية.
هذه الخطوة لاقت معارضة شديدة من حاكم كاليفورنيا جافين نيوسوم ، وعمدة لوس أنجلوس كارين باس ، اللذين اعتبرا أن هذا القرار يمثل تعديًا صريحاً على صلاحيات الولاية ، وقد يؤدي إلى كارثة وطنية قد تخرج عن السيطرة تمامًا.
لماذا يصعّد ترامب؟
لا يبدو أن التصعيد الأمني هدفه فقط “فرض النظام”.
ترامب يدرك أن معركته الحقيقية سياسية، يسعى من خلالها لكسب دعم تياره المحافظ قبل الانتخابات ، في ظل أزمة اقتصادية وتوتر داخلي غير مسبوق.
“صفر تسامح” ليست مجرد سياسة هجرة ، بل وسيلة لصناعة عدو داخلي ، وتقديم نفسه كـ “رجل القانون القوي” القادر على فرض هيبة الدولة ولو على حساب السلم الأهلي.
خطر تفكك الاتحاد الفيدرالي
الأزمة تجاوزت مجرد قضية هجرة. إنها لحظة اختبار لفكرة “الولايات المتحدة” نفسها : هل هي اتحاد اختياري بين ولايات متساوية؟ أم كيان مركزي يمكن للرئيس أن يفرض سلطته عليه متى شاء؟
كاليفورنيا ليست ولاية هامشية .. بل رابع أكبر اقتصاد في العالم (4.1 تريليون دولار في 2024)، ومركز التكنولوجيا العالمي بما تحتويه من عمالقة مثل أبل وجوجل ومايكروسوفت وأوبن إيه آي.
إندلاع الفوضى هناك لن يكون أزمة محلية ، بل بداية تصدع داخلي قد يصيب أمريكا كلها في قلبها الاقتصادي والسياسي.
سيناريوهات محتملة : إلى أين تتجه أمريكا؟
الخيارات أمام واشنطن الآن محدودة وخطيرة
1. التهدئة والتراجع : تدخل سريع من الإدارة الفيدرالية أو الكونجرس لإجبار ترامب على سحب قواته ، وفتح حوار مع حكام الولايات ، ما قد يضمن عودة الاستقرار مؤقتاً.
2. التصعيد والانفجار : إستمرار المواجهات، توسع الاحتجاجات ورفض ولايات أخرى لقرارات الرئيس ، ما قد يؤدي إلى أزمة دستورية ، وربما حركات انفصال صريحة .. سيناريو يهدد بتكرار كابوس الحرب الأهلية الأولى.
3. التدخل القضائي : إحتمال لجوء حكام الولايات للمحكمة العليا للطعن في قرار ترامب، في معركة قضائية قد تحدد مستقبل العلاقة بين الحكومة المركزية والولايات للأجيال القادمة.
الخاتمة : لحظة فاصلة في تاريخ أمريكا
ما يحدث الآن في لوس أنجلوس ليس مجرد أزمة عابرة ، بل اختبار وجودي لمفهوم “الولايات المتحدة” ذاته.
هل تستطيع أمريكا ، كما فعلت عبر تاريخها ، تجاوز خلافاتها وإنقاذ اتحادها ؟ أم أن نار الفوضى ستتسع لتبتلع نموذج الدولة الديمقراطية الأكبر في العالم؟
الأسابيع القادمة وحدها ستجيب ، لكن المؤكد أن العالم كله يراقب ، مترقباً ما قد يكون بداية تغيير جذري في خريطة السياسة الدولية.