بقلم – جلال الدين محمد
غرفة كئيبة اللون يزيدها بؤسًا ذلك المصباح الكهربي الصغير الذي يتدلى من سقفها. لا تجد فيها سوى نافذة صغيرة بُقضبان تُشبه الزنزانة لا يدخل منها ضوء الشمس وإن كانت تُمرر على استحياء بعض الهواء للغرفة.
هذا هو العالم كما تراه “نرجس” أسبوع كامل فقدت فيه الشعور بالوقت وهي هنا، حبل غليظ يلتف حول يديها، وثان على قدمي الفتاة المسكينة. في أيامها الأولى هنا كان هناك أيضًا ما يحبس صوتها، لكن ما أن أرهقها الصراخ المكتوم حتى رأي خاطفها أنه لم يعد هناك جدوى منه، بعد أن جفت الدموع في عينيها فلم تعد حتى قادرة على البكاء.
دخل خاطف “نرجس” يترنح إلى الغرفة، ألقى أمامها بعض الخبز والجبن وقارورة ماء، ثم استبدل الحبل الذي يشل حركة يديها تمامًا بأصفاد تُقيد اليدين ولكنها تسمح لها بأن تتناول طعامها بنفسها.
رمقها بنظرة مخيفة وهو يقول في صوت قبيح، خدمة فندقية أيتها المرأة. ضحك في شماتة وخرج تاركًا ما لم يكن يخطر على بالها في أفضل أحلامها منذ تم اختطافها.
أسقط الأحمق هاتفه أمامها تمامًا، بدأت تُحدق فيه غير مُصدقة ما إذا كان الذي تراه حقيقة أم أنه سراب كالذي يراه الظمأن في الصحراء، إلا أنها ألقت بجسدها فوقه على أي حال مُلتقطة الهاتف النقال. فبدت كالأم التي تحتضن صغيرها وتحاول حمايته من وحش كاسر.
صوت شخير خاطفها وصل إلى مسامعها، كما توقعت شرب حتى الثمالة ثم غرق في سبات عميق. بدأت تحاول استجماع شجاعتها وذاكرتها أيضًا. 122 رقم الشرطة هو أول ما تذكرته وقامت بالاتصال به.
بدأت بالهمس بصوت مبحوح أنها مخطوفة ولا تدري أين هي. صوت جهوري غاضب أتى من الناحية الأخرى، وهل أعطاكي الخاطف دقيقة لأن المكالمة مجانية؟ هددها بقضية إزعاج للسلطات ثم اغلق في غضب.
ارتعش جسد “نرجس” من الخوف، فلو أستيقظ الخاطف في الخارج فقد تكون في حكم الميتة. صوت الأذان أتى من النافذة الضيقة وكأنه يبعث الأمل في نفسها ويواسيها، الله معكِ.
شربت شيئًا من الماء أمامها وبدأت تعصر ذاكرتها، ثم ضغطت الأرقام محاولة الاتصال بوالدتها، لكن “ألو” التي سمعتها من الناحية الأخرى لم تكن صوتها.
أنا “نرجس” أتوسل إليك ألا تُغلق، أنا مُحامية وهناك من يحتجزني. الكثير من البكاء والنحيب والتوسل سمعه مُتلقي المكالمة، ليتحرك فضوله وتُقرع طبول الإثارة.
وما الذي يُثبت لي أنك لستِ مكالمة من هؤلاء الأغبياء الذين يزعجون الناس عبر الهاتف؟
نرجس نور الدين المحامية أقسم لك هذه أنا، وقد تم اختطافي. تدفق الأدرينالين في دماء “عادل” فقد رأي هذا الاسم بالفعل في أحد المنشورات على منصة التواصل الاجتماعي فيسبوك قبلها بيوم واحد، يروي قصة المحامية التي كانت على وشك الفوز في قضية تُدين رجل أعمال شهير قبل أن تختفي تمامًا ولا يعرف أحد لها طريق.
لا أعرف كيف وصل الهاتف لفتاة مخطوفة، لكن لو كنتي كاذبة سأحرص على الزج بك في السجن بتهمة الإزعاج، الآن حاولي إخباري بأي شيء يمكن أن يكون مفتاح الوصول إليكي وسأنقل رقم الهاتف إلى الشرطة لمحاولة تتبعه.
صاحت الفتاة في يأس، لا أعرف حتى منذ متى وأنا هنا.
رد “عادل”: عليكي المحاولة أي شيء أي صوت أريد “طرف خيط” أيها المحامية.
“يا بليلة هوووووووي، يا بليلة هوووووووي” صاح “عادل” اصمتي تمامًا.
كتمت “نرجس” أنفاسها في ذهول من صراخه المفاجيء فيها، قبل أن يُسمع الصوت مجددًا من الهاتف “يا بليلة هوووووووي، يا بليلة هوووووووي”.
فقال “عادل” هذا صوت العم “صابر” طالما مر من أمام سكني القديم بحي “الطالبية” أنتي هناك بلا أي شك.
صفي لي الغرفة، فبدأت الفتاة التي كاد الأدرينالين المتدفق في دمائها أن يحررها من القيود المحيطة بجسدها في أن تصف له معالمها، وأن هناك مسجدًا بجوار المنزل لأنها تسمع صوت الأذان بكل وضوح.
هتف “عادل” الغرفة تُشبه التي كنت أبيت فيها عندما كنت أسكن في هذا الحي، وصوت الأذان!عرفت الشارع الذي قد تكوني موجودة فيه، سأجدك يا فتاة اصمدي.
انقطع الاتصال عبر الهاتف قديم الطراز، لتشهق “نرجس” في رعب. فقد نفذ شحن بطارية هاتف الخاطف، فشعرت وكأن روحها قد سُحبت منها، وصور لها عقلها عشرات السيناريوهات عن الطريقة التي سيقتلها بها حين يستيقظ.
ولكنه الأمل، قبل أن يطرق بابها كانت عاجزة عن الصراخ، وقيدت الحبال والأصفاد روحها قبل جسدها، أما وبعد أن رأت المولى عز وجل يمنحها فرصة للنجاة، قررت أن تدافع عن حياتها بأظافرها حتى اللحظة الأخيرة.
دعت “نرجس” ربها بأن يجعلها سببًا في تطبيق العدل، وتقديم الملف الذي يفضح فساد “عاصم صفوان” ومصنع الأدوية الفاسدة الذي يُديره، فأصبح كالحية التي تحقن الناس بالسموم، بدلًا من معالجتهم منها.
تضرعت “نرجس” إلى ربها كثيرًا ثم قررت أن تتحرك. خبأت الهاتف النقال الصغير في صدرها، ثم زحفت كالدودة إلى أن وصلت لباب الغرفة، فنامت على ظهرها وبدأت بضرب الباب بقدميها ليسمع النائم في الخارج.
جر الخاطف جسده واندفع نحو الغرفة في غضب، ودفع الباب بعنف ليصدم الفتاة بقوة، ثم صرخ في وجهها قائلًا: ما الذي كنتي تحاولين فعله أيتها المعتوهة؟!
أجابت “نرجس” في ألم، “أريد الذهاب إلى الحمام بطني تؤلمني بشدة، ما الذي وضعته لي في الطعام؟ هل كنت تريد أن تسمني؟
ابتسم الخاطف في سخرية وقال، “لن تموتي بالسم يا حلوة”. أجابته في ألم، دعني أذهب إلى الحمام وإلا سوف يتعين عليك تنظيف المكان من فضلاتي، أمرك سيدك بأن تحافظ على حياتي، أليس كذلك؟!
وجه لها الخاطف كل أنواع السباب التي أستحي أن أذكرها، ثم تحرك في غضب ليُحضر أصفادًا أوسع من التي استخدمها في تقييد يديها، وبدأ في فك الحبال حول قدميها واستبدالها بالأصفاد، وقبض على شعرها بقوة مجبرًا إياها على الوقوف في حركة واحدة، ثم أمرها بالسير نحو الحمام ومسدسه موجهًا إلى رأسها.
تحركت الفتاة وهي تكاد أن تذوب من الخوف، إلى أن دخلت الحمام فأغلق الخاطف الباب خلفها بعنف وهو يقول عشر دقائق فقط، أنهي ما تقومي به بسرعة.
امتثلت “نرجس” لهذا الأمر، فمدت يديها بصعوبة لتُخرج الهاتف من صدرها، لم تكن تعرف بالضبط ماذا سوف تفعل لتتخلص منه على نحو لا يثير الريبة، إلى أن لمحت أدوات الحلاقة الخاصة بالخاطف موضوعة على نحو فوضوي عند الحوض، فوضعت الهاتف بجوارها، ليبدو وكأنه نسيه هناك.
ضغطت “نرجس” على السيفون ليبدو وكأنها أنهت ما تفعله، ثم نادته قائلة لقد انتهيت. زمجر الرجل وفتح الباب، فقالت له في استهزاء لأول مرة “أنت محترف لدرجة نسيان هاتفك بجوار ماكينة الحلاقة، سيفخر السيد عاصم بغبائك كثيرًا”.
صُعق الخاطف واندفع نحو الحوض ليجد الهاتف هناك بالفعل. جز على أسنانه في غضب وبدأ بفحصه فوجد أن البطارية قد نفذت، فكسره نصفين بيديه، والتفت إلى “نرجس” قائلًا، لولا أوامر السيد “عاصم” لحطمت رأسك. فردت في استهزاء أفعلها وأثبت أنك غبي. فهوى على وجهها بلطمة عنيفة جعلتها تسقط على الأرض مغشيًا عليها وقد سال الدم من فمها.
شعر الخاطف بالخوف لأول مرة أحضر بعض المناديل وبدأ في مسح دماء “نرجس” الفاقدة للوعي، وقد شعر بشيء من الارتياح لكونها مازالت حية، فالسيد “عاصم” لم يصل للملفات التي تدينه بعد، وسوف يقتله إذا أزهق روحها قبل أن يصلوا للملفات.
سيطر عليه الارتباك، فقد حطم الهاتف قبل التأكد من أنها قد استعملته أم لا. أحضر كرسيًا ثم أجلس “نرجس” عليه، وفك الأصفاد التي تُقيد يديها وقدميها، ثم قيد يديها خلف ظهرها على الكرسي بالحبال، وشل حركة قدميها، وأحضر الشريط اللاصق وكمم به فمها، وهو يقول “حتى لا يتجرأ لسانك على سبي مرة أخرى”.
استخرج الشريحة من الهاتف المكسور، وبحث وسط الفوضى التي توجد في الصالة عن الهاتف الآخر، وضع فيه الشريحة، وشغل الهاتف وبعد التشغيل بلحظة واحدة، جاءه الاتصال، الذي لم يكن سوى من السيد “عاصم” نفسه.
أنا أمام الباب يا “مرعي”… افتح الآن. أزعن “مرعي” للأمر على الفور، وهرول نحو باب الشقة لفتحه. دخل السيد “عاصم” واثنان من رجاله. أشعل سيجاره ووقف يتأمل “نرجس” في برود مخيف، قبل أن يقول “خذوها للصحراء وأدفنوها حية، لا يهم إن كان الملف مع أحد، سأجعل منها عبرة ولن يجرؤ أحد على إظهار الملف ومواجهتي”.
وبمجرد أن أتم الجملة، حتى كُسر الباب، وانهمر سيل من رجال الشرطة ليغمر الشقة ويحاصر السيد “عاصم” ورجاله الثلاثة، بينما صُعق الأخير وعجز لسانه عن النطق، بعد أن تم ضبطه بالجرم المشهود.
نحتاج هنا أن نعرف ما الذي فعله “عادل” بعد انقطاع الاتصال. اتصل بمحامي العائلة السيد “عطية السعيد”، والذي يحظى بسمعة طيبة لدى رجال الشرطة والمجتمع لتاريخه المشرف في الدفاع عن كل بريء، وطلب منه الذهاب معه إلى مديرية أمن الجيزة لإخبارهم بكل ما حدث.
وقد كان، فمع الثقة التي يحظى بها السيد “عطية” لدى رجال الشرطة. تم تكليف قوة بالتحرك في الخفاء على الفور للمربع السكني الموجود في الشارع الذي أخبرهم “عادل” أن بائع البليلة كان يمر منه كل يوم. وبدأ المقدم “سمير” الذي قاد العملية بالتفكير في موقع الشقة بدقة، إلى أن جاءه الحل على طبق من ذهب.
لمح المقدم “سمير” السيد “عاصم” وهو يخرج من سيارته ويتجه نحو عمارة داخل المربع السكني المحاصر برجال الشرطة المتخفيين في ملابس مدنية. وبمجرد أن دخل الشقة الواقعة في الطابق الثاني، اقتحمت القوة العمارة وحاصرتها، ثم هجموا على الشقة وألقوا القبض على الخاطفين.
مرت عشرة أيام، قدمت “نرجس” إفادتها في المستشفى ودلت الشرطة على مكان الملفات. هناك ما يكفي من الاتهامات لتدمير “عاصم صفوان” ومعاقبته على جرائمه. وبينما استلقت المحامية الشريفة على سريرها وجلست والدتها بجوارها تقرأ القرآن، حتى طرق أحدهم على الباب وهو يطلب الأذن بالدخول.
لم يكن سوى “عادل” بطل صديقتنا “نرجس”. شاب أسمر البشرة، طويل القامة، ولكنه رفيع يُشبه القلم الجاف، وله ضحكة صافية. عرف نفسه أمامها، فابتسمت بصعوبة وعبرت عن امتنانها الشديد له، وكذلك فعلت والدتها، التي هرعت لتُقدم له الحلوى، وتُجلسه على الكرسي، قبل أن تبدأ تحقيقًا من نوع مختلف.
كم عمرك يا بني؟
عمري 28 سنة يا طنط.
وأين تعيش يا حبيبي، هل لديك شقة خاصة؟
شعرت “نرجس” بإحراج شديد، وكذلك “عادل”، ولكنه أجابها: أعيش مع عائلتي في “الدقي”، ولدي شقتي في حي “أكتوبر”.
وهل تعمل يا بني؟
نعم يا طنط. أنا طبيب أسنان.
إذن سأحضر لك ابنتي “نرجس” لتُصلح لها الكسور في أسنانها، أعطني رقم هاتفك.
امتثل الرجل لأمر والدة “نرجس”، والتي بمجرد أن حصلت عليه حتى قالت، سأذهب لأحضر لك ما تشربه، وغادرت الغرفة لتتركهما سويًا.
تلون وجه “نرجس” بالأحمر فمنذ عشرة أيام كادت تموت، والآن والدتها تُحول بطلها إلى عريس محتمل. ولكنها نظرت إليه في حياء، فحتى لو كانت محطمة، فهذا الرجل كان سببًا في بقائها حية، هو ملاكها الحارس، ربما يكون لديها قصة شيقة تُخبر بها أولادها كيف تعرفت على أبيهم.




