✍️ يوحنا عزمي
بداية اقول ان كافة الدلائل والشواهد والمؤشرات تنطق بل تكاد تقطع بان الفترة القريبة المقبلة سوف تكون اكثر عنفا واشد دماراً وافظع في تداعياتها ومضاعفاتها المتوقعة علي الصعيدين الأمني والجيوسياسي من كل ما أصاب هذه المنطقة علي مدار عام كامل شهدت فيه من حروب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، ومن التدمير الشامل والمتواصل ومن التهجير القسري في الجنوب اللبناني ، ما يكاد يكون بلا مثيل له في اي مكان آخر في العالم .
هذا فضلا عن قيام إسرائيل في الفترة الأخيرة بتكثيف هجماتها العسكرية علي سوريا ، باختراقها المتكرر لاجوائها وبتدميرها التام للمعابر البرية التي تربطها بلبنان وهو الأمر الذي يفاقم بشدة من مشكلات النازحين اللبنانيين إلي أراضيها ، بل تجاوز الأمر ذلك إلي دخول إسرائيل بقواتها إلي المنطقة المنزوعة السلاح بينها وبين سوريا في خرق فاضح لاتفاقية الهدنة الموقعة بينهما ، كل ذلك في غياب اي رد فعل روسي او إيراني للدفاع عن سوريا في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية المتوحشة ، وتركها وحدها في مواجهة عدوان إسرائيل المتصاعد عليها ، علي الرغم من وجودهم بقواتهم وقواعدهم في أراضيها بذريعة الدفاع عنها ضد ما يتهددها من أخطار داخلية وخارجية.
وعلي الجانب الآخر ، فإن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب والقادم إلي البيت الأبيض في العشرين من يناير المقبل ، بزخم سياسي داخلي هائل ، وبحضور عالمي غير مسبوق ، وباكتساح ساحق لكل المعوقات التي سبق وان وقفت في طريقه خلال فترة رئاسته الاولي ، من إعلامية وحزبية وتشريعية ، ظل يردد بلا كلل انه يقف ضد الحروب المشتعلة في أوروبا والشرق الأوسط ، وأنه
لم يكن ليسمح بها إذا كان ما يزال رئيسا وقتها ، وان إدارة بايدن المنتهية ولايتها هي من تتحمل كامل المسئولية عنها لانها لم تتدخل بما كان يجب ان تتدخل به لمنعها والدفع باطرافها في مسارات اخري اقل عنفا وكذلك اقل تكلفة للولايات المتحدة ولدافعي الضرائب الأمريكيين .
وانا أصدق الرئيس ترامب في انتقاده لما جري وما يزال يجري علي الجبهتين الأوكرانية والشرق أوسطية ليس لأنه داعية سلام ولكن لأنه يجد في مثل هذه الحروب خسارة إقتصادية كبيرة لبلاده يمكنها تجنبها والبحث عن خيارات بديلة توفر عليها كل هذه المخاطر والخسائر والتكاليف.
وإذا كان الرئيس الأمريكي ترامب يتحدث عن السلام والحاجة العاجلة إلي وقف الحرب في كل مكان ، فإن ما سوف يحدث فعلا هو أنه سوف يتعامل عندما يتسلم مقاليد الرئاسة مع المعطيات الفعلية ومع الحقائق الماثلة علي الأرض ، وهي حقائق لن يكون بمقدوره ان ينكرها او يلغيها ، وسوف يكون موقفه ازاءها اقرب إلي شرعنتها وتقنينها ضمن إطار توافقي من نوع او آخر والانطلاق منها إلي ما بعدها من التدابير والمشاريع والترتيبات الإقليمية وفق رؤيته السياسية التي سيجيئ بها إلي البيت الأبيض في يناير القادم.
وتفسيري لموقف الرئيس ترامب بحكم العلاقة التحالفية الوثيقة التي تربطه بإسرائيل وبرئيس وزرائها نتنياهو ، وإلي الحد الذي جعل نتنياهو يصفه خلال فترة رئاسته الأولي بأنه افضل صديق لإسرائيل من بين كل الرؤساء الأمريكيين الذين جاءوا إلي البيت الأبيض وان عودته تعني احياء التحالف العظيم القائم بينهما هو أن علي إسرائيل خلال فترة الشهرين القادمين ان تنجز وبأقصي سرعة ممكنة كل ما تهدف إليه من وراء هذه الحرب ، حتي تخلق الأمر الواقع الجديد الذي تخطط له والذي سوف يجده الرئيس الأمريكي جاهزا في انتظاره عندما يبدأ في تسلم مهامه رسميا وهو الوضع الذي سوف ينطلق منه إلي البحث عن حلول وتسويات لهذه الحرب التي دخلت عامها الثاني دون حسم يمكنه ان يضع نهاية قريبة لها .. وهو ما يتصور أنها سوف تكون مهمته مع إدارته الجديدة.
وترجمة ذلك عمليا تعني إكمال إسرائيل تدميرها الشامل لقطاع غزة واحكام سيطرتها الأمنية علي الضفة الغربية تمهيدا لفرض سيادتها عليها وفصلها نهائيا عن غزة ، كمقدمة نحو ضمها رسميا إليها باعتبارها الجائزة الكبري التي يمكن ان تخرج بها إسرائيل من هذه الحرب التي لم يسبق لها ان خاضت مثلها ، مع التقدم نحو إخلاء جنوب لبنان بالكامل وتفريغه من سكانه بهدم كل القري والبلدات التي تقع في نطاقه واجتثاث حزب الله من كافة مواقعه وقواعده ومناطق نشاطه ، والانطلاق من ذلك إلي ضرب الرأس الكبير إيران بعد ان يكون قد تم تقطيع اذرعها ، وقد تكون منشآتها النووية والنفطية وغير ذلك من المرافق الاقتصادية الإستراتيجية الحيوية علي رأس قائمة استهداف إسرائيل لها، وهو ما صرح به وزير الدفاع الإسرائيلي الجديد اسرائيل كاتس ، الذي يعد احد ابرز الصقور اليمينيين المتشددين واكثرهم عدوانية وعنصرية وصلفا وتطرفا في حكومة نتنياهو.
وهو ما يؤشر بأن الأجواء السياسية في إسرائيل باتت محمومة إلي اقصي حد مع التغيير الوزاري الأخير الذي وضع المزيد من المتطرفين في اخطر مواقع إتخاذ القرار في تل ابيب .. وان مرحلة جديدة من التصعيد توشك ان تبدأ لتدفع بهذه الحرب الإسرائيلية العدوانية الشرسة في مسارات اخري اخطر واوسع مدي من كل ما سبق .. وهو ما لا بد وان يكون الرئيس ترامب علي علم مسبق به وان يكون قد حصل علي الضوء الاخضر منه .. بل وقد يكون هو الداعي إليه والمحرض عليه والداعم الأكبر له وهو ما ارجحه ولا استبعده.
سوف تكون الضربات العسكرية الإسرائيلية المتزامنة علي كل تلك الجبهات ساحقة ومتلاحقة في سباق مع الوقت منتهزة غياب الإدارة الأمريكية الحالية من الصورة مما لا يجعلها تشكل عيئا علي فرارات إسرائيل ولا قوة او قيدا ضاغطا عليها كما كانت تفعل معها قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة ، واضطرت إسرائيل إلي مسايرتها علي مضض حتي لا تثير خلافا معها في توقيت قاتل بالنسبة لها كإدارة أمريكية تسعي للعودة إلي البيت الابيض ، وهو ما لم يعد له موقع في الحسابات الإسرائيلية الآن.
يضيف إلي الفراغ الرئاسي الأمريكي ، ان الجيش الإسرائيلي الذي يخوض حربا طويلة لأول مرة في تاريخه ، ما يزال ضد كل التوقعات في قمة جاهزيته ، وروح الحرب هي السائدة لديه وأنه بصدد مهمات قتالية كبيرة علي عدة جبهات في آن واحد.
كما يسود الاعتقاد لدي الإسرائيليين ان كل الظروف والأوضاع العربية والإقليمية والدولية مواتية تماما لاستمرارهم في إكمال ما بداوه ويستهدفون منه تغيير معادلات القوة الإقليمية بصورة جذرية وأساسية وبما يتيح لإسرائيل ان تكون هي المتحكمة فيها والقابضة علي زمامها لتحقق بذلك ما ظلت تسعي وراءه منذ عقود طويلة ولم تنجح فيه .. وهذا هو ما يكرسون له كل امكاناتهم وخططهم واستعداداتهم الآن.
ولا يجب ان يخفي علينا ان اتصالاتهم مع الرئيس المنتخب ترامب من خلال القنوات الخلفية او السرية وغير المعلنة لا تهدأ لحظة ينسقون ويرتبون معه ويطلعونه علي ما يهمهم إطلاعه عليه لوضعه في الصورة معهم قاصدين من ذلك حصولهم علي توافقه معهم علي ما هم بصدده ..
والرئيس ترامب وان كان يتظاهر باللعب علي الحبال الإسرائيلية والعربية في نفس الوقت ، إلا أنه يجب ألا يداخلنا أدني شك في أنه سوف يلقي بكامل ثقله إلي جانب إسرائيل متذرعا في دعمه المطلق لها بدواعيها الأمنية الملحة وبالتزام أمريكا بإزالة مخاوفها وبالقضاء علي كل مصادر التهديد والخطر القريبة منها.
وفي سبيل ذلك سوف يتم خلال فترة حكم الرئيس ترامب إعادة رسم الخرائط الأمنية والجيوسياسية والإقتصادية في الشرق الأوسط بما يحقق لإسرائيل دور إستراتيجي محوري فيها ، وبما يتيح دمجها فيه ، ويحقق لها نقلة ، ان لم تكن طفرة هائلة وغير مسبوقة فيما يتعلق باندماجها في هذه المنطقة من العالم في ظل سلام إقليمي جديد في قواعده واسسه وترتيباته ومفاهيمه وأهدافه وإلياته ، سوف يكون الرئيس ترامب هو داعمه وراعيه. وهو ما كان ينوي ان يفعله إبان فترة رئاسته الأولي ولم يتمكن منه بحلول بايدن مكانه في البيت الأبيض وخروجه منه.
وفي ظل هذا السلام الشرق الاوسطي الجديد ، لن تكون هناك دولة فلسطينية مستقلة ولا حل دولتين ولا غير ذلك من الصيغ والمشاريع المطروحة حاليا.
وانما ستتركز جهود الأمريكيين مع حلفائهم الإسرائيليين علي البحث عن اماكن للفلسطينيين خارج بلادهم يمكن تهجيرهم إليها سواء كانت في دول الخليج ، او في اوروبا او في امريكا وكندا او حتي في استراليا ، الخ.
وسوف يكون الخيار المطروح وقتها أمام الفلسطينيين اما بقاؤهم تحت الحصار الدائم لهم والموت جوعا وبغي ذلك من وسائل الابادة الجماعية والقتل العنيف وهم اكثر من اكتووا بناره ودفعوا ثمنا إنسانياً فادحا فيه ، او النزوح خارج فلسطين بتسهيلات أمريكية وأوروبية إلي بلدان أخري يجدون فيها الأمن والأمان والمستقبل لهم ولابنائهم بعيدا عن الخطر والتهديد ..
هذه هي محاور استراتيجيتهم الجديدة التي سيحاولون من خلالها إغلاق ملف القضية الفلسطينية مرة واحدة وإلي الأبد .. او هذا هو جوهر تصورهم للحل ..
وهنا يجب ألا نتجاهل ما صرح به وزير مالية اسرائيل ، الإرهابي المتطرف سيموتريش من ان قرار ضم الضفة الغربية إلي إسرائيل ينتظر علي احر من الجمر وصول ترامب إلي البيت الأبيض لاخذ موافقته عليه ، وهو التصريح الذي عمدت الحكومة الإسرائيلية إلي تسريبه للتمهيد وجس النبض واستطلاع ردود الفعل العربية المتوقعة إذا ما جري الإعلان عن قرار ضم الضفة الغربية إلي إسرائيل مستقبلا ..
ويقيني هو ان القرارات جاهزة ولم يبقي غير الإعلان عنها بصورة رسمية من خلال الرئيس ترامب حال وصوله إلي البيت الأبيض او هذا هو ما تراهن عليه حكومة نتنياهو ووزراءها الآن وهو رهان لا يمكن ان يكون بغير أساس وانما لا بد وان يكون مستندا إلي وعود موثوق فيها من رئيس أمريكي يجاهر بتوجهاته وميوله وتحيزاته الصهيونية وبحبه المفرط لإسرائيل ولا يحاول ان يخفي مشاعره أو يداري عليها .. كان هذا واضحا في فترة رئاسته السابقة وسوف يزيد اضعافا هذه المرة او في ظل رئاسته الجديدة. اذ سوف يصبح من حق إسرائيل ان تأخذ كل شيئ في مقابل لا شيئ علي الإطلاق للفلسطينيين.
ما اعنيه تحديداً هنا هو أنه سوف يسمح للإسرائيليين بأن يحولوا غزة إلي منطقة إحتلال دائم لهم تحت إدارتهم العسكرية المباشرة بعد اخلائها وتفريغها تماما من شعبها الفلسطيني الاعزل ، كما سوف يسمح لهم بالانفراد بإدارتها بطريقتهم ووفق رؤيتهم الأمنية الخاصة وعدم السماح لاي طرف فلسطيني او عربي او دولي بمشاركتهم فيها في إطار ما يسمي بغزة في اليوم التالي بعد انتهاء الحرب عليها .. وسوف يتركهم يعلنون عن خططهم الجديدة بتكثيف الاستيطان في الضفة الغربية بمعدلات اكبر وبوتيرة أسرع وبتمويل أمريكي اساسا .
كما أنه لن يقف في طريقهم إذا ما قاموا بتغيير معالم القدس الشرقية او حتي باحتلال المسجد الأقصي حتي لا يصبح للفلسطينيين اي حقوق فيها وهو من كان صاحب القرار بضمها إلي إسرائيل خلال رئاسته الأولي ونقل سفارته من تل ابيب إلي القدس باعتبارها علي حد وصفه لها وقتها بالعاصمة الأبدية الموحدة لإسرائيل ، وهو بسكوته علي كل ما يجري فيها الآن فإنه يساعد شركاءه الإسرائيليين علي إسقاط مشروع حل الدولتين والدولة الفلسطينية المستقلة نهائيا لا لسبب إلا لانها سوف تصبح دولة بلا أرض تقوم عليها وهو ما يجعل مشروعها مجرد وهم وسراب ، ولتبقي إدارته بمثابة المظلة الكبيرة التي تحمي الإسرائيليين وتوفر الغطاء اللازم لتنفيذ كافة خططهم ومشاريعهم الاستيطانية والتهويدية التي يمكن ان تشكل نواة دولة إسرائيل الكبري كما يتصورونها بحدودها الجديدة في تل ابيب. وذلك دون اكتراث من جانب الرئيس الأمريكي بأي ردود فعل عربية رافضة
او منددة بتلك الخطط والسياسات الأمريكية والإسرائيلية العدائية والمستفزة للعرب.
فهو يعرف كيف يتعامل معها بطريقته ويحتويها ويخمدها ليفقدها كل تأثير فعلي لها .. وهو قادر علي ذلك بحكم معرفتنا به وتجربتنا معه طيلة فترة رئاسته الأولي ..فقد اخذ من العرب ، ومن دول الخليج العربية النفطية بشكل خاص ، أضعاف أضعاف ما قدمه لهم ، هذا إذا كان قد قدم لهم شيئا علي الإطلاق غير إطلاق الوعود بحماية عسكرية أمريكية وهمية لم تجد طريقها يوما إلي التنفيذ علي أرض الواقع وتقاضي منهم مقابلها مئات المليارات من الدولارات ومن هنا يأتي حرصه علي ان تكون السعودية هي اول محطة خارجية له بعد دخوله إلي البيت الأبيض في يناير المقبل وهو ما أعلنه منذ أيام واثار به دهشة واستغراب من لا يعرفون دوافعه ونواياه من هذه الزيارة السابقة لاوانها وهو من ينتظره برنامج عمل رئاسي حافل في الداخل والخارج.
لكن إذا كانت هذه هي طريقته المعروفة عنه وهذه هي عقليته السياسية الانتهازية التي يفكر بها ، فلماذا يكون استثناءا هذه المرة وهو التاجر والسمسار الشاطر الذي يعرف كيف يشتري ولا يبيع وكيف يعقد الصفقات ويكون هو دائما الطرف الرابح فيها.
منذ انطلقت عملية طوفان الأقصي في السابع من اكتوبر من العام الماضي ، جاء رد إسرائيل عليها بطوفان مضاد من القوة العسكرية المفرطة وبصورة همجية ووحشية لم يشهد العالم مثيلا لها. واتضح بعد ايام من إندلاع هذا الطوفان الإسرائيلي المضاد ان أهداف إسرائيل من الدخول في هذه الحرب الطويلة تتجاوز بمراحل حماس كمنظمة مقاومة ضد الإحتلال ، لتصبح أطماعا مبيتة في الأراضي الفلسطينية المحتلة كلها ، ومحاولة تغيير الأوضاع الجيوسياسية في الشرق الأوسط وإعادة رسم خرائطه السياسية والأمنية بصورة مختلفة تماما عن تلك التي كانت سائدة قبل حربها علي غزة ، ولم يكن ذلك بحاجة إلي إقامة دليل عليه بحقائقه الماثلة علي الارض ، والتي كانت كافية وحدها لتشهد علي فظاعة هذه الأخطار والتهديدات والتحديات الأمنية الإسرائيلية الجديدة.
إلا ان الأمر الصادم في هذا كله هو فشل العرب الذريع في إدارة العرب صراعهم في صورته الجديدة مع الإسرائيليين وداعميهم الامريكيين ، وهو الصراع الذي بلغ في غزة ولبنان مستويات مخيفة وغير مسبوقة من العنف والدمار الشامل في حرب هي الاسوأ من بين كل حروب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي شهدها العالم منذ نهاية الحرب الباردة.
ولا تزال دائرة الصراع تتسع ، لتنذر بالكثير مما لا تحمد عقباه ، فالمسالة لم تعد مسالة حماس او غيرها من منظمات المقاومة هنا وهناك ، وانما أصبحت مسالة منطقة يمكن ان تنزلق باكملها إلي منحدر رهيب من الفوضي والعنف وعدم الإستقرار الذي قد يدخلها في متاهات وفي أنفاق مظلمة لا تعرف كيف تخرج منها.
ومن هنا يثور التساؤل بطبيعة الحال وفي كل مكان علي إمتداد الأرض العربية كلها عن أسباب هذا الفشل والعجز العربي في إدارة أزمة هذه الحرب مع إسرائيل لاكثر من عام كامل ، دمرت فيه إسرائيل كل ما امكنها تدميره ، وارجعت القضية الفلسطينية عشرات السنين إلي الوراء ، فضلا عما فعلته وما تزال تفعله في لبنان بانتهاكها السافر لسيادته وبعدوانها الهمجي المستمر عليه في غياب اي رد فعل عربي او دولي يمكنه وقف هذا العدوان علي لبنان ؟.
ولماذا حدث كل ذلك الذي حدث رغم وفرة الإمكانات والقدرات العربية بالمقارنة مع قدرات إسرائيل المحدودة.
ولماذا لم يستخدم العرب ادواتهم وأوراقهم وسائر عناصر قوتهم الذاتية المتاحة لهم ، وهي كثيرة وقوية ومؤثرة ، ولم يتحركوا بها لمنع الكثير مما حدث ، وهم من كانت قدرتهم علي الرد والردع والانتقام اكبر بكثير جدا مما رأيناه علي أرض الواقع ؟.
وفي محاولة الإجابة علي كل تلك التساؤلات وغيرها ، سوف نجد انفسنا أمام مجموعة مركبة من العوامل والأسباب المتشابكة مع بعضها ، والتي أفضت في النهاية إلي هذه الحالة المزرية التي يرثي لها من العجز والفشل العربي في مواجهة إسرائيل وداعميها الأمريكيين والأوروبيين ، وهي الأسباب التي يمكن اجمالها فيما يلي :
أولاً : ان ما يسمي بمحور المقاومة والممانعة ضد مخططات واطماع إسرائيل في فلسطين المحتلة ولبنان ، وفي غيرها من الأراضي العربية ، هو محور قوامه ميليشيات طائفية مسلحة تدين بالولاء التام لإيران ، وتتحرك بأوامر وتعليمات من الحرس الثوري الإيراني وفق حسابات تتسق مع أهداف اجندات إيران الإقليمية والسياسية والأمنية في المقام الأول ، تحت شعارات المقاومة الإسلامية ومبدأ تساند الجبهات ووحدة الساحات لربط كل هذه الاذرع الإيرانية ببعضها ، وفي كل هذه الخطط والقرارات التي يجري تنفيذها بإيعاز من إيران وحدها ، لا تستشار الدول والحكومات العربية مسبقا بشانها وان كان تنفيذها يحدث داخل أراضيها وانها هي وحدها من تتحمل عواقبها وتدفع الثمن كاملا فيها كما حدث في غزة ويحدث الآن في لبنان ..
وهذا وضع غريب وغير مقبول ، ولا يمكن ان يستمر هكذا ، فالمقاومة ضد إسرائيل يجب ان تكون عربية من الألف إلي الياء وألا تكون لإيران او لغير إيران من دول المنطقة غير العربية اي تحكم فيها او سيطرة عليها لحساب اجنداتها السياسية الخاصة. وذلك إذا ما كان لحركات المقاومة ان تحافظ علي هوياتها الوطنية والعربية والقومية وتعرف طريقها إلي أهدافها نحو التحرر والاستقلال الحقيقي.
ثانياً : أن من بين أسباب هذا الفشل والعجز العربي في مواجهة كل تلك الأخطار والتهديدات ، عدم وجود نظام فعال للدفاع العربي المشترك، وهو ما يجعل من الصعب بالنسبة لاي دولة عربية الانفراد باتخاذ قرارا بالدخول في مواجهة عسكرية كبيرة ضد إسرائيل لأنه فضلا عن تفوق إسرائيل النوعي الكبير في كافة عناصر منظومتها التسليحية ، فهي مدعومة عسكريا بصورة مطلقة وشاملة ودائمة من قبل اعظم قوة عسكرية في العالم .. ولهذا سوف تكون مثل هذه المواجهة الثنائية خاسرة بما لا يدع مجالا للشك ، وهذا هو ما يجعل اي دولة عربية تحجم عن المجازفة بالذهاب إلي هذا النوع من القرارات الصعبة والمكلفة.
ومن ناحية أخري ، فإن المواجهة غير العسكرية لكي تكون فعالة ومؤثرة ، فإنها تتطلب بالضرورة تنسيقا عربيا شاملا ، وتوافقا عربيا تاما علي طبيعة أدواتها وكيفية استخدامها بصورة انتقائية مدروسة ومخططة، وكذلك تضامنا عربيا عاما في تحمل المسئولية عن نتائجها قبل الأطراف الدولية التي يجري إستخدام تلك الأدوات اللينة نسبيا معها ..
وهو امر ثبت من واقع التجربة انه متعذر تماما بسبب صعوبة توافق الحكومات العربية علي مثل هذه الاستراتيجيات التي تتطلب قدرا كبيرا من الجرأة السياسية والصمود في وجه الضغوط والتهديدات المضادة.
ثالثاً : ان هناك دولاً عربية خليجية مرتبطة بعلاقات شراكة إستراتيجية متميزة ووثيقة للغاية مع الولايات المتحدة بهدف الحصول منها علي الحماية ليس فقط لأمنها ، وانما قبلها لأمن انظمة الحكم فيها ، ولهذا ، فإنها لا تري مصلحة لها في الاصطدام بالسياسات الأمريكية في المنطقة ولا في تحديها او المغالاة في انتقادها لان التحرك في هذا المسار قد يجلب عليها نقمتها وغضبها وعداءها ويضعها في مرمي التهديد والخطر.
وهي لذلك تحاذر جداً في مواقفها من إسرائيل ، الحليف الإستراتيجي الأول لأمريكا في الشرق الأوسط حتي لا تثير ثائرة واشنطن ضدها .. ومن ثم ، فهي تنحو لأن تنتهج تجاه إسرائيل مواقف سلبية او لينة وتجنب الدخول في مواجهات ضدها حتي لا تكلفها تلك المواجهات علاقات أمريكا الودية معها. وهي لذلك تكتفي بالدعم الإعلامي للقضية الفلسطينية او بالوساطات الدبلوماسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين تحت الرعاية الأمريكية ، او بالدعوة إلي عقد مؤتمرات قمة
دولية او عربية وإسلامية بين وقت وآخر ، وهي مؤتمرات بروتوكولية تعلم الدول الخليجية الداعية إليها أنها لن تغير من واقع الأمر في شيئ ، وانها شو إعلامي وليس اكثر.
وهذه هي طبيعة إستجابة الدول العربية الخليجية الثرية في مواقف التهديد الخارجي ، وهي التي تملك اكثر من اي أطراف عربية أخري في المنطقة مفاتيح الضغط الإقتصادي والمالي والقدرة علي التأثير في مواقف القوي الخارجية الداعمة لإسرائيل او المتواطئة معها كما في الحروب التي تدور حاليا في الشرق الأوسط وكان الدور الأمريكي محوريا وحاسما فيها.
لكنها بحساباتها الخاصة ومن منطلق تقديرها لحساسية اوضاعها السياسية الداخلية بالاساس ، فإنها لا تري مصلحة لها في الدخول طرفا في مثل تلك المواجهات. ولا يخفي ان احجام تلك الدول العربية الخليجية النفطية الثرية عن توظيف أوراقها واستخدام أدواتها الإقتصادية والمالية في المواقف التي تستدعي ذلك ..
يخصم من قدرة العرب علي الدخول في مواجهات ناجحة ضد إسرائيل وداعميها .. بل إنه هو ما يشجعها ويحفزها علي المزيد من التمادي والتصعيد.
رابعاً : ان هناك دولاً عربية ترتبط بمعاهدات سلام رسمية مع إسرائيل ، وبعضها مضي عليه قرابة نصف قرن ، واحدثت تلك المعاهدات من النتائج السياسية والاستراتيجية ومن التحولات والتغييرات الأمنية علي كل الأصعدة ما احدثت .. ومن ثم فإن تصور اقدامها علي إلغاء تلك المعاهدات والتحول من حالة السلام إلي حالة الحرب مرة أخري سوف يُحدث زلزالا عنيفا في المنطقة سوف تكون له تداعياته الخطيرة للغاية ، ولأنه سوف يعني الانزلاق إلي مسارات قد تكون كارثية بكل المعايير ، واعني هنا مصر بشكل خاص ، وهي التي كانت القاسم المشترك الكبير والمستمر في كل الحروب العربية الإسرائيلية وتكبدت فيها ما تكبدته ، وخسرت فيها الكثير مما كان يمكن ان يضيع منها إلي الأبد.
ولهذا ، فأنه قد يكون من الاجدي والاوفق والانسب ، البحث عن أدوات اخري غير الحرب لضبط هذه الاختلالات الأمنية الطارئة. وهذه هي مسئولية ودور القيادات السياسية العليا في تلك الدول بحكم امتلاكها لقنوات اتصال مفتوحة مع اعلي المستويات القيادية المسئولة في اسرائيل، ولديها هي الأخري العديد من أدوات الضغط والتأثير في المواقف التي تستدعي مثل تلك التحركات والاتصالات والمشاورات.
أعني بما أقوله أنه يجب توسيع دائرة الخيارات عند التعامل مع كل تلك الأخطار والتهديدات الإسرائيلية دون حاجة إلي النكوص عن السلام او التراجع مرة اخري إلي الحروب العنيفة التي غرقت مصر فيها في ١٩٤٨، و١٩٥٦، و١٩٦٧، و١٩٧٣ ، وانتهت منها إلي الجلوس علي مائدة التفاوض بحثا عن حلول وتسويات سياسية دائمة لنزاعاتها مع اسرائيل. وهو ما تفعله حماس والحكومة اللبنانية الآن بحثا عن إتفاق لوقف الحرب في إطار القرارات الدولية ذات العلاقة بهذا الأمر.
أعود واقول ان إدارة مرحلة او مراحل التحول نحو السلام العادل والشامل والمستقر قد تكون اصعب كثيرا من إدارة الحرب. فأدارة الحرب مكانها ميادين القتال العسكري وفيها تحسم النتائج ، اما ميادين السلام فهي كثيرة ومتنوعة وتتسع لكثير من الرؤي والمفاهيم والأفكار والمشاريع والمبادرات والاجتهادات ، الخ.
والمهم هو ان يعرف كل طرف طريقه إلي ما يريده من هذا السلام ولو كانت الحروب هي الحل لمشاكل الشعوب ، لما توقفت الحروب في العالم يوما واحداً .. لكن هذا لم يحدث ولن يحدث.
خامساً : اما آخر أسباب هذا الفشل في إدارة أزمة الحرب علي غزة بالذات ، فيرجع إلي الانقسام المستمر في صفوف القيادة الفلسطينية، وتباعد توجهات حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية عن بعضهما إلي الحد الذي يجعلهما علي طرفي نقيض ..
فلا حماس استشارت السلطة الوطنية في ما كانت تعتزم الإقدام عليه بعملية طوفان الأقصي ولا هي نسقت معها او اشركتها معها في إدارة هذه الأزمة المدمرة التي دفع الشعب الفلسطيني كله ثمنها فالثقة كانت وبقيت مفقودة بين الطرفين ، وكل جسور الإتصال مقطوعة ، وكل منهما يخاطب العالم بلسان غير الآخر ، وهو ما اضعف موقفهما في نظر العالم ، وهو وضع لم تتواني إسرائيل عن توظيفه لصالحها عندما رفضتهما معا ، واصرت علي استبعادهما من اية ترتيبات لإدارة غزة بعد انتهاء حربها عليها .
وهذا الخلاف المتجذر بين حماس والسلطة الوطنية أصبح عقدة العقد حتي تكاد لا تبدو له نهاية قريبة. واغلب الظن أنه سوف ببقي كذلك لفترة طويلة قادمة.
محصلة كل ما ذكرناه هي ان المواقف العربية من أزمة الحرب الإسرائيلية علي غزة ومن تداعياتها التي امتدت لاحقاً إلي لبنان تتوزع منذ عام كامل وحتي الآن في عدة اتجاهات :
فمنها المواقف الداعية إلي توخي الواقعية والاعتدال وتغليب الحكمة وصوت العقل علي ما عداه ، ومنها ما يدعو إلي توظيف ما يحدث في الدعوة إلي قمم عربية وإسلامية ودولية للتاكيد من خلال الاعلانات التي تصدر عنها علي حق الفلسطينيين في ان تكون لهم دولتهم المستقلة ، وهو يعلم انها قمم بلا جدوي ولا طائل يرجي من ورائها لعدم استنادها إلي آليات تنفيذية قادرة علي التحول بها من حيز النصوص والشعارات إلي حيز التطبيق العملي ، ومن تلك المواقف العربية ما يميل إلي الانسحاب والابتعاد وايثار الصمت وتجنب الإعلان عن مواقف محددة حتي لا يلتزم بما لا يريد توريط نفسه فيه او يجلب عليه رد فعل لا يقدر علي التعامل معه، ومنها ما يكتفي بالقيام بأدوار وسيطة وكأنه طرف ثالث محايد بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي او بين المعتدي والمعتدي عليه ، ومنها من يلقي باللوم كله علي الأوضاع العربية الهشة ويعتبرها المسئول الاول عن هذه النكبة الاخيرة كما عن كل النكبات الأخري التي سبقتها والتي سوف تاتي لاحقة عليها مستقبلا ، وأنه يوم يتغير هذا الواقع العربي السيئ ، ولا يقولون لنا متي او كيف ، فسوف يتغير بعده كل شيئ ، الخ.
وهكذا يتوزع رد الفعل العربي إزاء ما يحدث علي الساحة العربية من تطورات مؤسفة وصادمة ، في جملة من الدوائر المتضاربة والخطوط المتقاطعة مع بعضها، وبشكل لا يمكن ان يشكل اي مصدر للضغط علي الإسرائيليين ولا علي الأمريكيين ولا علي المجتمع الدولي ولا علي اي طرف آخر اقليميا او دوليا في اي مكان.
جذور الخلاف عميقة ، وعوامل التباعد تطغي علي عوامل التقارب وتضارب المصالح بين تلك الأطراف العربية كان موجودا بأستمرار وسوف يبقي كذلك ، والاعتبارات القطرية الضيقة بحساسياتها وتحيزاتها هي الغالبة والمسيطرة ، والتخبط والعشوائية والارتجال هي سمات مميزة للإدارة العربية للأزمات حتي الساخنة منها.
والاعلام العربي يكلم نفسه ولا يعرف كيف يخاطب العالم باللغة التي تؤثر فيه وتقنعه بأن العرب علي حق وأنهم أصحاب قضية وموقف .. فمحارق ومجازر غزة كانت تكفي لان يقيم بها الإعلام العربي الدنيا ولا يقعدها لكنه لم يفعل ..
كان التقصير واضحا وشاملا ومعيبا إلي اقصي حد حتي ان العرب تركوا جنوب افريقيا تذهب في البداية وحدها إلي المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بفريق قانوني دولي علي أعلي مستوي لتقيم الدعوي ضد إسرائيل ولم تنضم بعض الأطراف العربية إليها الا بعد ان اتخذت حكومة جنوب افريقيا الخطوة الأولي في هذا الإتجاه وبهرت العالم بدفاعها عن حقوق الفلسطينيين في أراضيهم المحتلة وادانتها لجرائم الحرب الإسرائيلية بالأدلة الموثقة.
واما دول أمريكا اللاتينية فكانت الأسبق في قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل كما فعل البعض منهم ، او في استدعاء سفرائها من تل ابيب كما فعل البعض الآخر منهم هناك في اقصي العالم .. وقال رؤساء دولها بحق حكومة نتنياهو العنصرية الفاشية الإرهابية ما لم تجرؤ علي قوله الحكومات العربية ..
وما قاله رئيس جمهورية كولومبيا وحده يكفي ، حتي ان نتنياهو كاد يفقد صوابه من هول ما سمعه منه ، كان العالم يتحرك ويستنكر ويدين ويشجب جرائم إسرائيل في غزة والعرب صامتون وكانوا يستشهدون بما يفعله الآخرون هناك في بلادهم ..
وكانت هذه مفارقة غريبة في وقت لا يتوقف العالم فيه عن الحديث عن أهمية إحترام حقوق الإنسان .. ومع ذلك تركنا الفرصة تضيع من أيدينا .. وليبقي تركيز الإعلام الغربي علي عملية طوفان الأقصي وحدها ، وعلي مشكلة الرهائن والمحتجزين الإسرائيليين لدي حماس.