زينب عبد الحفيظ محمد
بومةٌ بيضاء تجول بسماء ليلةٍ فرنسية هادئة… عرّف الهدوءُ المقلق هذا بالذي تليه عواصف مدمّرة، وبهذه البقعة من العالم، وبهذه الليلة تحديدًا، لم تَتْلُ العاصفةُ الهدوءَ فحسب، بل مادت المدينة واختلج رسوب الأتربة، بل حتى الجبال كادت أن تَهدِم على رؤوسٍ منفصلة، أدمغةً لكلا عقيدة، ولكلّ كتابٍ متمسّكٍ به.
الأديان جميعها تُحترم من قِبل البعض، لكن أن يُقسَّم دينٌ واحد، ويسير كلُّ جماعةٍ في طريقٍ تقوده الكراهية، فذلك يولّد نارًا خفية تكبر حتى تصبح حريقًا هائلًا بالنفوس.
التفتت رأس البومة بغتةً إلى صدى أصواتٍ رنّت بالأجواء، وعلى أثرها فُتحت المشاعل والأبواب. أصواتٌ زعزعت الهدوء الراكد… أصواتُ أجراس الكنائس، دقّت ودقّ معها قلوب الكثير.
شهر أغسطس لعام 1572 خلّف وراءه درسًا معتّقًا لأصحاب العقائد المنقسمة: كاثوليك، بروتستانت. أيّهما الأصح؟ سؤال تقاذفوه بعنادٍ عنيف. هؤلاء يقولون: نحن الأصح. وأولئك تحتدّ أعينهم قائلين: الحق لدينا ونحن الأعلون.
تشاور أصحاب الأعمار المتقدّمة، واتُخذ قرارٌ بتوحيد الانقسام وخلط النسب، حتى تجري دماءٌ واحدة في كلا القسيمتين. لكن ذكاء الكبار في بعض الأحيان لا يُطفئ النيران، بل يُؤجّج غضبًا متوحشًا في الأدمغة المتشدّدة. لم يُجدِ زواج الأميرة الكاثوليكية بزعيم البروتستانت، بل إنّ الحقد الذي سكن العائلات المتعصّبة طاف بالبقاع، وكادت الأيادي المخنجرَة أن تمسك بالقائد وتفتك به. ولحسن وسوء الحظ معًا، نجا.
حدثٌ كتم أنفاس الجميع. وللأفعال دائمًا ردود، وردود الأفعال إذا تولّاها أصحاب الكراهية، جاءت هادرة.
بدأ السباق… إمّا أن ينتظر أصحاب الخيانة خطوة من الضحية، أو تُلقي الضحايا بكتل اللهب. وفاز الكاثوليك بالخطوة الأولى. الملكة الأم كاترين، امرأةٌ يختلط ذهبيّ شعرها بالبياض، شمت رائحة العواقب بالأيام القادمة، فأصرت وضغطت بخوف، ولحفظ سلالة العائلة المالكة دفعت الملك إلى فتح بابٍ مكتوبٍ عليه بخطٍ عريض: “خطر مميت”. كان ذلك الباب هو مدخل مذبحة سان بارثولوميو.
كانت النيّة أن تُوحّد الجهتين بعرسٍ مُغلّف بالسلام، وأن تجري دماء الفصيلتين في عروقٍ واحدة. لكن الذي حدث… أنّ دماء الفصيلتين جرت في شوارع فرنسا جميعها، وفتحت أبواب الدماء على مصاريعها بكل المدن المجاورة.
مازالت أجراس الكنائس تدقّ، ومعها تتسع عينا البومة، بينما تهبّ العاصفة مُهاجمةً البروتستانت فجأةً، معلنةً بداية مذبحةٍ غيّرت وجه التاريخ.
رفعت شرائع النهاية بيد امرأة، شيءٌ من الذعر والخوف والرعب تشبّث بالجميع؛ أن تُهاجَم وترتفع عليك أسلحة الموت بنفس اليد التي مُدّت لتصافحك بالسلام، تلك قمة الخيانة والتناقض. استمر القتال لأيام، ووقع به آلاف من البروتستانت. حزن لذلك نهر السين وقلت مياهه، وابتلع ضحايا وواراهم بباطنه، ونظر بشفق لبقية الجثث التي افترشت الشوارع.
تلاقت عين البومة بعين طفلٍ محتضنٍ أمَّه بفزع، ممتلئ بالجروح لكنه لا يبكي، بل يراقب تحليق الطائر بشحوب. تفرّست بعضٌ من وجوه الموتى المصفّرة، والوجوه المتألمة، ونظرت إلى الأفواه الصارخة، والشفاه المرتجفة تتمتم بأدعية، والعيون الراجية تبحث في السماء عن وسيلة خلاص، وسط آهاتٍ وحنينٍ مختلطٍ بصرخاتٍ معترضة.
وحلّقت بتنافر بعدما امتلأ ريشها الأبيض بالدماء، وتركت المشهد مفتوحًا لتترك المجال لزمنٍ يدون على مهلٍ أحداثَ ليلةٍ سوداء في كتاب التاريخ الفرنسي الحافل بالوقائع المحزنة.
المعارك الطائفية تصبح أعنف عندما يقاتل المرء أبناء دينه؛ فلا هو قادر على الصمت وهو يظن أنّه ينصر الحق، ولا هو قادر على الثبات وهو يرى الفوضى تلتهم إيمانه.