بقلم✍️ انتصار عمار
لقد كان يومًا رائعًا حقًا، يوم أن اصطحبنا والدي إلى المتحف المصري الجديد، حيث كانت أشعة شمسه تغزل نهارًا جديدًا.
يُحييك من سنا ضوئها أثواب السعادة، فلقد كانت تلك أمنيتي الوحيدة، التي أبيت كل ليلة، أحلم بها.
نعم تلك كانت أمنيتي، أن أذهب لزيارة المتحف المصري الجديد، وأشاهد تماثيل وآثار بلادي، التي تبرهن على عظمة أجدادي الفراعنة القدماء.
في الحقيقة، لم يتردد أبي مطلقًا في الموافقة، عندما أخبرته برغبتي الشديدة في زيارة المتحف، خاصةً عندما قلت له: أنني لم أنجح في مادة التاريخ هذا العام، إلا إذا ذهبت
للمتحف.
وشوفت التماثيل والآثار عن قرب، وقعدت معاهم (وكأنه موصوف لي)
لم يفكر والدي كثيرًا بالأمر، وأخذ ينادي أمي: يا رشيدة.
وأتت أمي مسرعة، وهي تجر ثوب السعادة، عندما سمعت بحديثنا عن السفر، وزيارتنا للمتحف، وكأنها راحة تستلم شهادة الإعفا من الجيش.
لكن سرعان ما تلاشت سعادتها هذه، عندما طلب منها أبي، أن تطلع على السطح، وتجيب كم فرخة وكم بطاية عشان نبيعهم، ونقدر نوفر ثمن التذاكر.
انطفأت بسمة أمي، وبدت ملامح الحزن على وجهها، ووالله ما أنا عارفة، دا علشان كانت نفسها تيجي معانا المتحف، وبابا رفض؟ ولا عشان وجعها فراق الكم فرخة والكم بطاية اللي مزينين السطح، وهنبيعهم!
جلست مع أمي، وسألتها عن سبب حزنها، و أخبرتني: إنها تتمنى تسافر معنا، وتشوف حياة الفراعنة زمان كانت ازاي، وإنها طول عمرها كانت بتتمنى تقعد تتكلم وتحكي مع كليوباترا.
وكمان زعلانة على الفراخ والبط اللي هيفارقوا معدتنا، ويهجروا سفرتنا.
ويا مرحبًا بالجبن، والفول، والعدس، والطعمية، لحد ما ينتهي موسم رحلة المتحف دية.
وبعد أن أنهيت الحديث مع أمي، حاولت أن أجفف أدمعي التي تسبح في حلم شوربة الدجاج، والبط المسكوفي.
ثم ذهبت وتحدثت مع أبي، ورجوته أن يسمح لأمي بالسفر معنا، والإتيان لزيارة المتحف، وبالفعل وافق أبي، وباعت أمي الفراخ والبط، وعملنا حدادًا على فراقهم ثلاث ليال، العشرة مش بتهون والله، بالذات لو كان بط.
وباليوم الرابع، طرقت السعادة باب منزلنا، وخلعنا عنا ملابس الحداد، واستقبلنا تباشير الصباح المحملة بعطور الياسمين.
وذهبنا إلى محطة القطار وأبي يمسك بيدي، وأمي تحمل حقيبة الطعام، وأنا أحمل في يدي كتاب التاريخ، عشان لما أشوف أجدادي الفراعنة، يعرفوا أد إيه باحبهم.
وركبنا القطار و كلنا نشوة وسرور، وكأن الفرحة قاطعة تذكرة سفر معانا، وجات محطة مصر، ونزلنا من القطار، وركبنا باص للمتحف.
ووصلنا المتحف، وكم كان رائع الشكل والتصميم، فقد كان على أعلى مستوى من التنظيم، والدقة، كنت مبهورة بكل ما تراه عيني.
أشعر وكأنني أمام كتاب تاريخ لا تنتهي صفحاته، رواية تاريخية تجول الزمن، عبر مر العصور، كنت أقف والفخر يحملني على جناحيه، ويسافر بي في عيون الزمان، عبر خارطة العالم.
وأثناء حديثي الصامت مع أجدادي الفراعنة، إذ بصوت أمي يقطع شرود فكري، وهي تحدث الملكة كليوباترا، وتقول لها: أنا جيت لك أهو يا ملكة، سوقت
عليك النبي، لتقولي لي كنت بتعملي إيه لشعرك يا اختي، عشان يبقى حلو كدا؟
قولي لي، وما تخافي والله، سرك في بير، والكحل يا اختي اللي بتحطوه في عيونكم دا، جاهز؟ ولا عاملينه على ايديكم؟
وازاي مش بيسيح كدا زي بتاعنا المغشوش دا؟ الواحدة تصحى من نومها تحطه في عينها، تخرج الشارع دقيقتين، بعيد عنك، الناس تصرخ في وشهها، وكأن الباجور هب فيه، من كثرة السواد اللي تحت عينيها منه.
بابا فضل يضرب كف على كف، وكأنه مش عاجبه اللي ماما بتقوله، مع إني شايفة إنه عادي جدًا، وإنه فرصة مامتي تزيد شوي من ثقافتها الجمالية.
وشوية ولقينا ماما طلعت حلة المحشي من الشنطة، وعزمت على الملكة بها، وتحلفها بالله، لتمد إيدها وتآكل معاها.
قال الملكة هتاكل محشي قال! إزاي طيب، ودي واحدة ماشا الله عليها، عاملة دايت على طول، و محافظة على رشاقتها!
فضلت أمي تتحايل عليها، وتعزم عليها بصباع المحشي، عشان تتكلم، وتقول لها السر، إن الملكة تتكلم! لا يمكن.
أمي زعلت، وقالت لها: يعنى مش كفاية قهرتي على الفرختين، والبطايطين اللي اتباعوا عشان آجي لك؟
هي دي مقابلة بردوا! مش كان العشم يا اختي يا كليوباترا، دقيقتين ووجدنا رجل الأمن يأتي بأقصى سرعة، و ينقض على حلة المحشي، ويحرزها هي وباقي الممنوعات.
من مخلل لفت، وذكر البط اللي كان تايه من أسبوع، والحمد لله لقيناه عند طنط روحية، أتاريه كان مخنوق شوية، وراح يغير جو عندها.
بعيدًا عن كل مايحدث، أنا كنت متأثرة بشكل المتحف، وجماله، ذلك الصرح العظيم، ووفد السائحين، وكان نفسي أصرخ بأعلى صوتي، وأقول: أنا مصرية، وهذه عظمة بلادي مصر.
لكن صراحة ما حبيت أعمل ضجة إعلامية، واركب التريند، مش باحب الشهرة، والأضواء المسلطة قوي، إلا إذا كان ضوء لمبة الجاز.
وعن جمال آثار بلادي، والتي يعكسها ضوء الشمس، حينما يتعامد على وجه أجدادي الفراعنة، وكأن الشمس تشرق بجبينهم كل صباح.
حيث تخلع التماثيل بردتها، وتلقي بها على وجه الشمس، فتزيدها حلة الوجود، وبهاء الحياة، وأثناء تجولنا في المتحف، وجدت رجلًا ممسكًا بيده كتاب، وقلم.
لم يكن هناك ما يستدعي الدهشة في شكله، أو مظهره، إلا أنه فجأة تعالت الأصوات، والتم الناس، وحُشد الجمع كأزيز النحل.
وضاقت الأنفاس في نهاية اليوم الجميل، حينما علا صوت الملك، الذي استشاط غضبًا، غيرةً على زوجته الملكة، والتي كانت تجلس بجواره.
حينما لاحظ نظرات هذا الرجل لها، حيث كانت نظراته كلها إعجاب بجمال عينيها، فما كان من الملك إلا أن قام من مكانه.
وقام بصفع الرجل، ونهره بالكلمات، إلا أن الرجل حاول امتصاص غضب الملك، وقال له: أنه باحث أثري، وأن من اختصاصه دراسة الآثار والتماثيل، وما نحو ذلك.
وحاول أن يفهمه أنه لم يركز في عيون الملكة ولا غيرها، لدرجة أنه قال له: ملكة إيه اللي معجب بعيونها، وهي واخذة بوكس فيها!
ثم أحضر الرجل زوجته، وأراها للملك، فتسمر الملك مكانه من شدة جمال زوجة الرجل، وكأن قدماه تزحلقت بجليد.
ولم يستطع الملك تمالك نفسه، إزاء جمال هذه المرأة، فأخذ يثني على جمالها، حتى قام زوجها، فصفعه صفعةً.
كسرت إحدى ذراعيه، فسقط الملك على الأرض مغشيًا عليه،
وعيناه شاخصتان تجاه هذه المرأة، حتى قام زوجها بركله.
فتحطم تمثال الملك، وتهاوى، وانكسر، وانكسرت معه هيبة الملك، وأصبح تمثال الملك حديث الساعة بين كل الموجودين بالمتحف، بما فيهم السياح.
وظلت أمي تردد: حتى رجالة الفراعنة كدا؟ رد عليها أبي وقال لها: ومالهم رجالة الفراعنة بقى يا رشيدة؟
قالت له: لا يا سي أمين، ما ملهومش.
دا أنا بس قصدي على الشهامة، والنخوة، أهو ضيع عمره أهو، وخسر وقفته باليومية في المتحف عشان عينيه، قصدي عشان رجولته، ودمه الحر يا اخويا.




