✍️بقلم/ *انتصار عمار*
نحيا الحياة بجدها وهزلها، تارة مرح، وتارة دموع، وبين هذا وذاك نهر طويل ممتد لانهاية له، ولا حد.
نحاول أن نعبره، لنتجاوز تبعات هذا النهر، ولكي نعبر، ونتجاوز أي عائٍق بحياتنا، علينا أن نحيا مع الله أولًا، فمن كان في معية الله، أظله لطف الله أينما حل أو ارتحل.
وأن تكون لنا خبيئة عملٍ صالٍح بيننا، وبين الله سبحانه وتعالى، وما أجمل خبئية العمل الصالح التي لا يعلم بأمرها سوى الله وحده.
فهي بمثابة بساط الريح الذي يحلق بك عاليًا، ليعبر بك فوق جبال الآلام، والمعاناة، وتعد أيضًا
بمثابة جواز السفر الذي يتيح لك حرية التنقل من عالٍم لآخر، فيمنحك مرونة الترحال عبر قارات الهموم، وتنتقل من عالم الأسى لعالٍم آخر، لا يسكنه الحزن كثيرًا، وتغادره ضغوطات الحياة أحيانًا.
وهذه الخبيئة هي وسيلتك للتقرب من الله عز وجل، وهي سفينة الأمان التي تبحر بك في عرض الأزمان، وتحيطك بطوق النجاة، وتدفع عنك كل مكروه، وسوء.
لقد كان يومًا رائعًا مع صديقاتي، ذاك اليوم الذي أنهينا فيه عامنا الدراسي بالجامعة، وانتهينا من جميع الإختبارات.
ظللنا نمزح ونمرح، ونتبادل الضحكات، ونتجاذب سويًا أطراف الحديث، ونداعب خديّ الشمس، ونتمايل مع خيط أشعتها المنسوج، نسكن في محيط خصر قرصها، نصافح حرارة الصيف فرحًا، وابتهاجًا.
نحتضن بساتين الورود، ونعانق فيها عطر الياسمين، ورَوح البنفسج.
وسرنا من مكاٍن لآخر، وكأننا نستقل حافلة الزمن عبر أريچ الزهور، ويغمرنا عبقها.
ونجلس تحت مظلة الأشجار الوارفة الظلال، وكأنها أٌم تحتضن صغيرها بيديها الحانيتين.
لحظات جميلة، قضيناها وكأننا نخطفها من يد الزمن، ولكن كحال الحياة دومًا معنا، لم تدم رحلة السعادة هذه كثيرًا.
فسرعان ما انتهت هذه اللحظات الجميلة وافترق الصديقات، كل منا ودربه حيث بلدته التي يقطن فيها.
وبعين كلٍ منا حديثٌ ترويه، ودمٌع حائر يتمنى ألا نفترق، وحوار إيدٍ تتصافح، وعناق يدق أجراس الوداع.
كم هي مؤلمة لحظات الوداع ! وكم لا أطيقها.
واتجهت إحدى صديقاتي للباص، فهم من ساكني مدينة القاهرة، والآخريات منا ذهبن إلى محطة مصر، حيث موعد القطار.
وكنت أنا من بينهن، وبالفعل ركبنا جميعًا القطار المميز، وكل واحدة من صديقاتي نزلت بمحطتها.
وكانت محطتي هي آخر محطة بعد محطات صديقاتي، وجاء موعد نزولي من القطار، ونزلت على رصيف المحطة، وانتظرت لحظاٍت على الرصيف حتى يحين موعد القطار القادم، والمتجه إلى مدينتي.
وجاء القطار المنتظر، لكنه لم يأت براكبيه فقط، إنما اصطحب معه هدية القدر الذي كان يُخبئها وراء ظهره، حيث جاء القطار حاملًا ثوب القدر الذي ألبسني إياه.
انتظر القطار قليلًا على رصيف المحطة ما يقرب من ٣ ثوان، ليركب الركاب.
وانتظرت من ينزل من القطار، وذهبت لأركب، وما لبثت أن أرفع إحدى قدماي، لأركب عربة القطار، فإذ به يبدأ خُطواته في السير.
سار القطار بالفعل وكانت قدمي الآخرى على الرصيف، يا لفاجعة القدر، إحدى قدماي بداخل عربة القطار، والآخرى خارجه على الرصيف! والقطار يسير!
أخذ القطار في سيره، يفصل ما بين قدماي، وكأنه يقتسم الچيب الذي كنت أرتديه.
لحظة من أقسى لحظات حياتي قاطبًة، لا أستطيع رسم وصف لإحساسي في تلك اللحظات الفارقة بين الحياة، والموت، اللحظات السريعة الخاطفة المميتة.
توقف كل شيء بداخلي، وحدها أنفاسي هي التي تصرخ من هول الصدمة.
تستغيث، وجميع الحواس في صمٍت مدوي.
وكان الرصيف خاليًا تمامًا من أي مار، وإذ بفتىً صغير في مقتبل العمر يسارع، ويمسك بقدمي الأخرى من عقبها، والتي كانت على الرصيف، ويُدخلها داخل عربة القطار، وهو يسير.
مشهٌد لا يُمحى من صحيفة ذاكرتي، وكلما تذكرته، حتى الآن أبكي، ويعز علي نفسي جدًا.
كنت سألقى حتفي تحت عجلات القطار، وبرغم كونها دقائق فاصلة ربما قد تعلن خبر وفاتي، إلا أنه ما كان مسيطرًا على في تلك اللحظة؛ هو خجلي، كيف لأحد أن يُمسك بحذائي.
وركبت القطار بالفعل، وأنا صماء، بكماء، توقفت كل حواسي عن الحركة، وكل أجهزتي عن الحراك، والعمل، وكأن النبض توقف للحظات، ليعلن حالة الذهول.
فبالفعل كنت في حالة لا تُوصف، داخلي يبكي بشدة، وأخشى عيني تذرف أدمعًا، يراها الركاب.
وعدت لمنزلنا، وأخبرت أمي بما حدث معي، قالت لي: ربما يكون هذا ملكًا أرسله الله إليك، لينقذك، طالما أن الرصيف كان خاليًا تمامًا من الناس، وهذا الفتى ظهر فجأةً.
أراد الله لي الحياة، ربما لدعاء أمي الذي يرافقني أينما كنت، وربما لعملٍ صالٍح، أودعته سجل أعمالي، ودفتر بريد الآخرة.
فبطبيعتي لا أقوى على رؤية شخص بحاجة إلى شيء دون مساعدته، طالما أستطيع المساعدة بالفعل.
فلقد تعلمت منذ صغري مقولة ترسخت في ذهني وحفرت بذاكرتي حتى الآن، ألا وهي ؛”لا تستحي من عطاء القليل، فالحرمان أقل منه بكثير”.
ولا تتوقف المساعدة على مساعدة من يحتاج مالًا فقط، إنما تتسع الدائرة لتشمل أي محتاج، فمنا من يفتقر إلى صدق المشاعر وروح الإخوة والصداقة،
ومنا من يفتقر إلى منقذٍ، يفيده في علاج وحل مشكلاته، والكثير والكثير من هذا القبيل.
فجمال الإنسان يكمن في جمال روحه، وحسن خلقه وتعامله مع الآخرين، وحُلته جبر الخواطر، وزينته تاج العطاء، بمعنى أن يكون معطاًء.
كما علمت أيضًا أنه” حُرم على النار كل هين لين”، فلربما هشاشة القلب عندما أمر بجوار قطة، فأسلك طريقًا آخر، حتى لا أزعجها، فتخاف مني.
وعندما أبكي لرؤية وردة منزوعة الأوراق، ملقاة على الأرض، وعندما أتألم، لألم مريض، وكأن الألم بي، وحينما أبكي لبكاء أحدهم، وأحزن لوجعه.
بالنهاية؛ حياتنا بمثابة بوتقة للأزمات والهموم والعديد من المشاكل التي كثيرًا ما نمر بها ولكن لطف الله غالب، فللكون رب، يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور.
يعلم ما بداخلنا، ويعلم خبايانا من سرائر نُسرها عن الجميع، ولربما أحيانًا عن أنفسنا، حين نحاول تناسيها.
كٌل خبيئة عملٍ صالٍح نفعلها، هي وسيلة إدخار لنا بالدار الآخرة، هي شهادة استثمار، نستثمر فيها أعمالنا لننال الجائزة الكبرى، وقت يوم الحصاد، وهي أيضًا طوق نجاٍة لنا بالحياة الدنيا من كل سوء.
فاجعل لك خبيئة عملٍ صالٍح بينك، وبين ربك، لا يعلم بها سواه، ولا تحدث بها أحدًا حتى نفسك.