✍️ بقلم : يوحنا عزمي
لا أخفي أنني شعرت بدهشة حقيقية حين استمعت إلى تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، الذي عبر فيه عن “سعادته” بما قدمته حركة حماس خلال اليومين الماضيين من تنازلات وصفها بأنها “غاية في الأهمية”، من دون أن يفصح أو يحدد ماهيتها ، وكأنه يلمح إلى أمر أكبر مما قيل، أو ربما يُمهد لصفقة خفية لم تُعلن بعد.
التساؤل الذي يفرض نفسه هنا هو : هل كان من بين تلك التنازلات قبول حماس بالخروج من غزة أو التنازل عن سلاحها ؟ هذا ما لمح إليه البعض ، غير أن الحركة لا تزال ـ وفق بيانها الصادر بالأمس ـ ترفض المساس بسلاحها ، معتبرة إياه أداتها الوحيدة للدفاع عن نفسها في مواجهة خصومها.
غير أن البيان لم يُحدد من هم هؤلاء الخصوم ، وكأن الغموض صار جزءًا من اللعبة السياسية التي يُراد لها أن تستمر ، فيما يبقى جوهر الأزمة عالقاً في منطقة رمادية لا تُرضي أحداً.
وعلى الجانب الإسرائيلي ، وهو الأكثر أهمية في هذه المعادلة الشائكة ، يواصل بنيامين نتنياهو هوايته المفضلة في التلاعب بالنصوص وتفسير البنود على هواه. لا شيء يخرج عن إطار المراوغة المعتادة في سياساته ، إذ بدا واضحاً أنه لعب دوراً حاسماً في تعديل بعض بنود خطة السلام الأمريكية خلال لقائه الأخير بالرئيس ترامب في واشنطن ، حتى تتواءم مع طموحاته السياسية ومخططاته العسكرية ضد غزة.
الدليل الأوضح على ذلك هو تجاهله الكامل للبند الأول في الخطة، الذي ينص على الوقف الفوري لإطلاق النار ، وفتح الممرات الإنسانية لإدخال المساعدات إلى القطاع ، بالتزامن مع إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس. لكن حكومة نتنياهو وضعت أمام تنفيذ هذا البند عراقيل متعمدة ، متذرعة بمخاوف أمنية ، ومتخفية وراء مسميات واهية ، في حين أن الهدف الحقيقي هو كسب الوقت واستنزاف خصومها سياسياً وعسكرياً.
بل إن إسرائيل ذهبت أبعد من ذلك ، حين منحت وفدها المشارك في مفاوضات شرم الشيخ ـ التي تجري برعاية مصرية وبصورة غير مباشرة مع حماس ـ مهلة زمنية محدودة للغاية ، ووجهت إليهم أوامر صريحة بعدم تجاوزها ، والخروج من المفاوضات فوراً إذا رفضت حماس تقديم ما تراه تل أبيب “تنازلات ضرورية”. وكأنها مفاوضات على طريقة العصا والجزرة ، لا على أسس سلام عادل.
إسرائيل أرادت من البداية أن تترك الباب مفتوحاً لاستئناف الحرب متى شاءت ، وبذات الوتيرة الدموية التي شهدناها طوال الأشهر الماضية.
وهنا تبرز علامة استفهام كبرى : ما الذي سيفعله ترامب حينها؟ هل سيتدخل للضغط على إسرائيل وإجبارها على الالتزام بخطته التي أعلنها للعالم؟ أم سيتنصل من كل مسؤولية ، تاركاً إسرائيل تتصرف وفق ما تسميه “حقها السيادي”، وكأن خطته للسلام لم تكن سوى واجهة دعائية لا أكثر؟
ما يزيد الصورة التباساً هو أن ما يسمى بـ”خطة السلام الأمريكية” تبدو حتى الآن أقرب إلى إعلان نوايا غامض منها إلى وثيقة سياسية واضحة قابلة للتنفيذ. الخطة تفتقر إلى آليات محددة ، وتُغرق الوسطاء ـ المصريين والقطريين والأتراك تحديداً ـ في بحر من التفاصيل المعقدة والمتشابكة التي تسمح بتفسيرات متعددة ومتضاربة لكل بند من بنودها الإحدى والعشرين.
هذا الغموض المقصود يُبقي الباب مفتوحاً أمام كل طرف لقراءة النص بما يخدم مصالحه ، ما يجعل فرص نجاح الخطة تكاد تساوي الصفر ، خاصة في ظل غياب التوافق بين الأطراف المعنية ، وانعدام الثقة المتبادلة بينهم.
في ظل هذه الفوضى ، تتضاءل فرص أي سلام حقيقي ، بينما تتسع رقعة الدم والألم. غزة ما زالت تحت نار القصف والتجويع ، والكارثة الإنسانية هناك تتفاقم كل يوم.
قد تتوقف العمليات العسكرية لبضعة أيام كهدنة شكلية لإتمام صفقة تبادل أسرى أو تهدئة الرأي العام الداخلي في إسرائيل ، لكن لا شيء يشير إلى أن هذه الحرب ستنتهي فعلاً. فالحكومة الإسرائيلية ماضية في استراتيجيتها المعلنة : “لا سلام قبل نزع سلاح المقاومة”، وهو الشرط الذي تدرك أنه لن يُقبل من حماس أو أي فصيل فلسطيني آخر ، ما يعني أن الهدف الحقيقي ليس السلام ، بل إخراج حماس من المشهد السياسي والعسكري في غزة نهائياً.
كل الضغوط الأمريكية تُمارس على طرف واحد فقط : حماس. وكأن واشنطن قررت أن تُحمل الضحية وحدها مسؤولية المأساة ، متجاهلة أن الاحتلال هو أصل المشكلة وأن استمرار العدوان سيولد مقاومة جديدة أشد بأساً من سابقتها.
أما الضفة الغربية ، فالوضع فيها لا يقل سوءًا ، مع تصاعد وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ، ما يجعل المشهد الفلسطيني برمته يسير نحو المجهول.
في النهاية ، لا يبدو أن هناك ضوءًا في نهاية هذا النفق الطويل المظلم. كل ما يجري الآن لا يتعدى كونه جولات من التكهنات والمراهنات السياسية ، تُدار على حساب دماء الأبرياء وأحلام الملايين في الحرية. ومع إسرائيل، تبقى كل الإحتمالات واردة ، لكن الأكيد أن “خطة السلام الأمريكية” ـ بصيغتها الحالية ـ تسير نحو مصير محتوم من الفشل ، لأنها وُلدت من رحم الغموض والمصالح ، لا من إرادة حقيقية للسلام. ومن الحكمة ، إن أردنا أن نكون واقعيين ، أن نُبقي تفاؤلنا مشروطاً ، وأملنا حذراً ، لأننا في مشهد لا يعِدُ إلا بمزيد من التعقيد والخذلان.