بقلم: شيماء_حسانين || رحيل
“انتبه لا تقترب”
وجدتُ هذه الجملة على بوابة ضخمة لقصرٍ ما في طريق عودتي إلى المدينة، أخبرني الجميع أن هذا الطريق مختصر، وسأصل مبكرًا عن موعدي بقرابة الساعة، لم أسلك هذا الدرب يومًا من قبل، لذلك لا بأس في تجربتُه هذه المرة، فأنا على عجلة من أمري، ها أعتذر منكم لم تتعرفوا إلي بعد أنا البروفيسور أندريا عالم في الكيمياء العضوية، جئتُ من قرية صغيرة، لا تكاد تُرى على خارطة العالم، ولكنني حاربت قدري وها أنا الآن قد حققتُ أكبر أحلامي، أسكنُ في لندن حيث عملي، وقد كنتُ أمضي إجازتي الأسبوعية مع والدتي في قريتنا، فهكذا أعتدتُ أنا وأخوتي أن نكون مجتمعين في بيتنا؛ كي لا تشعر والدتنا بالوحدة والغربة، فقد رفضت أن تترك القرية الصغيرة وتأتي معي، وكان لي أخٍ وأخت وجميعنا نسكن في المدينة، لذلك نذهب إليها في نهاية كل أسبوع ..
غادرنا بيت والدتي عائدون إلى المدينة، كان أخوتي يسيرون خلفي، وهم من أرشدوني لهذا الطريق، ثم تقدمتهم دون أن أشعر، نظرتُ خلفي فلم أراهم، حاولت الأتصال بهم ولكن لم يكن هناك إشارة للهاتف، لذلك جلستُ داخل سيارتي لبضع دقائق، ثم قُلت في قرارة نفسي لا بأس، سنلتقي عند عودتنا، وهم لن يشعروا بالضيق إذا سبقتهم بالعودة، وبالفعل عدتُ لتشغيل سيارتي وغادرت، وأثناء قيادتي ظلت الأشجار تتحرك من حولي، فالرياح في ذلك اليوم كانت قويةٌ للغاية، وصوتها كان يبعثُ في نفسي شيئًا من الرعب، ولكن لا بأس.
ثم على حين غرةٍ توقفت السيارة، ولم تعد تعمل، حاولت مرارًا وتكرارًا ولكن دون جدوى، ترجلتُ منها وقمت بفحصها، فوجدتُ أن خزان المياه بها قد فَرغ، أعدتُ فتح باب السيارة مجددًا حيث كان هناك قارورة من المياه جواري طوال الطريق، وما إن أمسكتها وجدتها أنها أوشكت على النفاذ، لم يتبقى بها سوى كمية قليلة، عدتُ أسير بحثًا عن أحد لمساعدتي.
وأثناء سيري وجدتُ مجموعة ضخمة من الأشجار، يلوح من خلفها مبني لم أدرك ماهيته إلا حين اقترابي منه، كان قصرًا كبيرًا، مثل القصور التي نشاهدها في قاعات السينما ونقرأُ عنها في القصص والروايات، اقتربتُ من بوابته، وما إن رفعت رأسي كي أتفحصه وجدتُ هذه العبارة” فلتنتبه، لا تقترب”
لم أُلقى بالًا للأمر، ودلفتُ من بوابة القصر، لأجد بحيرة كبيرة ذات مياة أرجوانية اللون، يتخللها الضوء من شدة نقائها،و بها الكثير من الطيور تسبح بداخلها والأسماك الملونة، كأنها قد نزلت من الجنة، القصر كله يبدو كذلك.
حيث كانت الأشجار مزينة ومرتبة، وأعمدة الإضاءة كلما خطوت خطوة على الأرضية الرخامية كان القصر يُضيء أجزاء منه، رأيتُ كأن هناك استقبالًا لملكٍ ما، الكثير من الورود حولي، والعصافير قد سكنت أشجارها، وألوان القصر من الخارج كانت تبعث في الروح شيئًا من البهجة، تقدمت محاولًا أن أبحث عن شخصٍ ما، ظللتُ أكرر جملتي: هل من أحدٍ هنا؟!
يا سكان القصر، هل هناك من يسمعني؟!
ولكن لم تكن هناك إجابة، ثم ما إن أدرتُ ظهري حتى انفتح باب القصر، وخرجت منه أنوار عجيبة، وفتاة كانت ترتدي فستانًا ورديًا يكسوها بياض الثلج، ويغطي ظهرها سواد الليل الحالك، كانت تشبه أميرات ديزني، ولكنها لم تكن منهم، بل كانت أجملهم، فلا مقارنة بينهم، أشارت إليّ لأقترب، وحينها شعرتُ بأني أسير دون خياري، كأنني مجبر على الذهاب إليها، اعتلت الدرج من جديد ووقفت على حافة الباب وقالت بإبتسامة قد أسرت قلبي: مرحبًا بك ..
صعدتُ بضع درجات وكنتُ في مقابلها تمامًا: أهلًا بكِ سيدتي..
وظللتُ متخشبًا أمامها، لا استطيع التفكير في شيء، أو التعبير عن شيء، ثم باغتتني بسؤالها وهي تدلف إلى الداخل وأنا أُساق خلفها، كأنها جذبتني بتعويذة ما ..
السيدة: أخبرني أيها السيد ما طلبك؟!
وحينها انتبهت إلى قارورة المياه الفارغة في يدي فقلت: تعطلت سيارتي وأنا عائد إلى المدينة، وبحاجة إلى قارورة مياه ممتلئة …
ضحكت ضحكات متتالية، وظلت تجوب وتلف القاعة الكبيرة التي دلفنا إليها، ثم تحت ضوء القمر الذي تسلل إلى وجنتيها من نافذة كبيرة فوق درج القصر، توقفت وقالت: هل هذا فقط طلبُك؟!
فوجدتني أقترب منها وأقول: ربما تغير طلبي الآن..
دنت مني حتى تسارعت دقات قلبي، وتخالطت أنفاسُنا معًا ثم قالت بابتسامة لم تفارق ثغرها: ما هو الآن؟!
ترددتُ كثيرًا، وشعرتُ كأن قلبي يُحلق في السماء وأن الأرض تلف بي، ولكنني لم أتجرأ على أن أخبرها بطلبي، ووجدتني رفعت قارورة المياه الفارغة وقلت لها: أخرى بها ماء فقط ما أريد …
نظرت إلى عينيايّ عن كثب أكثر، كأنها تتفحصني من الداخل، تعلم ما يجول في خاطري ولكنها تأبي إلا أن تجعلني أعترف بذلك، خطوت بضع خطوات إلى الخلف، وألتفتُ بكل جسدي وغادرت..
وأثناء خروجي وجدتُ قارورة المياه في يدي أضحت ممتلئة، لم أُلقى بالًا للأمر، عدتُ إلى سيارتي ووضعت لها المياه وغادرت، ولكنها لم تُغادرني قط، على الرغم من عودتي إلى المدينة إلا أنها سكنت روحي، وباتت الحُلم الذي يتكرر كل ليلة..
هاتفت أخي جون وأخبرته عما حدث معي، ولكنه أخبرني أن لا قصر هناك، وأن هذا الطريق هُجر منذ عشرات السنون، وأنه بالصدفة اكتشفة في إحدى العُطلات حين كان يُريد أن يعود إلى المدينة بشكلٍ عاجل، دله عليه شيخٌ كبير رأه أثناء بحثه وسؤاله عن طريق مختصر، ومنذ ذلك الحين وهو يعود منه حين يكون متعجلًا في أمرٍ ما، وتعطلت سيارته هناك ولكن لم يكن هناك أحد ليساعده وحين ألتقط هاتفه إشارة كانت هناك سيارة طُلاب عائدة من رحلتها فصعد معهم وفي الصباح أرسل مُصلح السيارات ليأتي بها، وانتهي الأمر منذ ذلك الحين، إذًا كيف ظهر لي قصرًا بالأمس؟!
أخبرني جون: لا بد أن هذا مجرد وهمٌ عابر، ووحدتك خيلت لكَ الكثير من الأشياء، فلا يوجد أحد هناك .. ولا يوجد قصور..
أندريا وقد أضحى هناك شعرةٌ بينه وبين الجنون: ولكنني شعرتُ بأنفاسها، ورأيتُها أمامي..
جون: هل لامست شيئًا في القصر؟!
أندريا وهو يحاول التذكر: لا .. كل شيء بدأ يُفتح من تلقاء نفسه، وهي من أدخلتني القصر، بإيماءة من رأسها ..
جون: إذًا لا دليل على وجودها ..
أندريا: كيف؟!
جون: إذا كنت لمست شيئًا أو جلست إلى أحد المقاعد كان سيظهر أثر غبرة على سُترتك أو بنطالك..
أندريا: لم.أرى شيئًا عليهم أثناء نزعي إياهم..
جون: إذًا هو مجرد وهم لا أكثر.. فلتنسى القصة وتعد إلى عملك ..
أندريا بنفاذ صبر وقلة حيلة: حسنًا.. إلى اللقاء أخي..
جون ساخرًا منه: إلى اللقاء أيها المُتيم بوهمه ..
بعد أن أغلق الخط ظل يفكر هل حقًا ما قاله جون صحيح؟!
يبدو منطقيًا كذلك، ولكن كيف لي أن أتوهم بفتاة لا أعرفها؟!
كيف لها أن تتجسد، تضحك وتجول وتصول هنا وهناك كأنها بشرية، وكأن الموقف كله حقيقي؟!
حقًا أرجو أن ينتهي هذا العبث، وأن أعود إلى رشدي قريبًا …
دلفت إحدي الفتيات وقالت: أيها البروفيسور وقت المحاضرة الآن.
أندريا بتشتت: حسنًا، حسنًا فلتسبقيني إلى القاعة ..
الفتاة: حسنًا يا سيدي …
ذهب بالفعل ليعطي محاضرته، ولكنه كان لا يزال تائهًا، وغارقًا في وهم الأمس، ظل يردد الكثير من الأشياء الغير مفهومة، إلى أن انتبه لصوت إحدى طلابه..
الطالب: أيها البروفيسور .. أستاذ أندريا هل تسمعني؟!
توقف لبرهةٍ ثم قال: أجل، هل هناك شيء؟!
الطالب: نحن لا نفهم شيء مما تقول يا سيدي، فلتعذرنا هل يمكنك أن تُعيد الشرح …
حينها شعرتُ بالأرتباك فإنها المرة الأولى التي لا استطيع فيها تأدية عملي على الوجه الأكمل، اعتذرت من طلابي وغادرت القاعة …
وأنا بداخلي الكثير من التساؤلات..
من هي هذه الفتاة؟!
وما قصة هذا القصر؟!
هل حقًا ليس له وجود أم هو يظهر للبعض فقط؟!
الكثير يجوب في رأسي دون إجابة محددة..
ثم نهضتُ من مقعدي وقلت ربما حان الوقت ليّ لكي اقترب..