ابداعات

المنديل الذي قلب نظام الحكم

 

 

بقلم – جلال الدين محمد 

 

كالبرق مضت أيام زياراتي الأولى إلى مصر بعد عشر سنوات من الغياب. طفت بين جوانب الشوارع التي لعبت فيها صبيًا، وزرت كافة أقاربي حتى الذين يسكنون محافظات أخرى، واستكشفت الجديد من المقاهي والمطاعم، والحق أن ألف عطلة لم تكن لتكفي كي أشبع مما فاتني.

 

معاذ صديق طفولتي ليته يأتي معي إلى إنجلترا، بدلًا من أن يبقى كل منا في بلد. عزائي أني لم أدخر فرصة خلال العطلة إلا وقضيتها برفقته، صار لديه صبي كالبدر وفتاة تغمر منزله حبًا ودفئًا، واليوم كان الوداع لأستقل طائرتي عائدًا.

 

مضى كل شيء على نحو طبيعي، حتى جلست انتظر إقلاع الطائرة، وبينما أفتش جيوبي بحثًا عن علبة مناديل، وجدت أني نسيت شراء واحدة، والآن يجب الاتكال على لطف أحد الركاب ليمرر لي المناديل.

 

هل تعلمون من الذي أبحر في سفينة عقلي على حين غرة في هذه اللحظة؟ العم عبد القادر وقصصه الأسطورية التي لم تحدث سوى في مخيلته الخصبة.

 

سنحتاج للعودة إلى حين كنت في السادسة عشر من عمري، بعد مباراة كرة قدم قوية مع الأصدقاء في الشارع، تعرضت قدمي لإصابة جعلت الدماء تسيل منها، ومع حماس اللعب لم أشعر بالألم حتى اصطادت عينا الصقر لدى السيد عبد القادر حال قدمي وأنا أصعد سلم بيتي.

 

خيار رفض عرضه للمساعدة لم يكن واردًا، حين يلتقطك هذا الرجل عليك مجاراته لتنتهي مما علقت فيه في اسرع وقت، فما بالك وهو أصغر سنًا وأكثر قوة.

 

أجلسني على الأريكة وظل يبحث في الشقة، حتى وجد كل ما يحتاج إليه لمداوة الجرح ما عدا المناديل، فقام بقص قطعة قماش، وبدأ العمل، قبل أن يباغتني بعبارة هل تعلم أن مصر تحولت من الملكية للجمهورية بسبب منديل قماشي؟!

 

لم أعلم وقتها أيهما كان يؤلم أكثر، هل قدمي والجرح الذي تعرضت له فيها، أم تلك الجملة التي أنجبتها بنات أفكار العم عبد القادر، الذي تابع واثقًا تمامًا مما يقول: أحد الضباط أراد تحذير الملك فاروق وخط رسالة على منديل قماشي أعطاه لأحد الخدم لينقله للملك، لكن الخادم استخدم عن طريق الخطأ المنديل في تنظيف أنفه ورماه وهكذا فات أوان تحذير جلالته.

 

السيد عبد القادر لديه إمكانية أن يرسم على ملامحي ابتسامة بلهاء أكون عاجز تمامًا خلالها على النطق بكلمة واحدة، هكذا تابعت يومها الابتسام والنظر إليه حتى أطلق سراحي لأصعد إلى شقتنا. ها قد جاء النداء على رحلتي للتحرك نحو لندن، شكرًا للعم عبد القادر فقد شعرت بالتسلية من تذكره بهذه القصة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!