بقلم: شيماء_حسانين || رحيل
كأن الكون أجمع تتضارب مجراته داخل رأسي، كأن قلبي على وشك أن ينخلع من موضعه، كأنني أُساق إلى حافة الهاوية دون رغبةً مني، العالم أجمع على أن لا يُصدقني، حتى أمي ..
ملاذي الوحيد في عالمي المتهالك ..
نهضتُ من مجلسي، وشعرتُ كأن الأرض تلتف بي، كأنني أغرق داخل محيطٍ جارف لا تتوقف عواصفه عن الإطاحة بي وإغراقي في قاعه المظلم، بدأت أخطو خطوة نحو باب غرفتي، ولكنني ما لبثتُ حتى وجدتني أسقط من جديد، كأن قدماي لم تعد لي، ولا سُلطة عليها، ولكنني على الرغم من هذا الأمر، أجبرتُ نفسي على النهوض متثاقلًا وكأن جبال وضعت على صدري،
خرجتُ من المنزل وكان صوت أمي يُناديني من الخلف: أندريا إلى أين ستذهب في تلك الساعة؟!
ولكنني لم أُجيب ليس لأنني لا أُريد ولكن كأن قوة كونية ما تجبرني على السير دون الألتفات لشيء أو لأحد، ظللتُ هائمًا على وجهي إلى أن وجدتني أمام البحيرة، كانت تقع على الجهة الأخرى من منزلي، أيعقل أنني كنتُ ألتف طوال هذا الوقت الذي لم أدركه حول البيت، وحينها فقط انتبهت .. ما الذي أفعله هنا؟!
كيف آل بي مسيري إلى هذه البحيرة؟!
أي الأقدار أتت بكَ أندريا؟!
أردتُ العودة ولكن كان هناك شيء يمنعني من الحراك، ثم بدأتُ أتفحص المكان من حولي، فرأيتُ ضوء يأتي من الجهة الأخرى للبحيرة، حاولت كثيرًا أن أتحقق من القائم على الجانب الأخر ولكنني لم استطع، فحدثتُ نفسي قائلًا: لا بأس، ربما أحد عمال الغابة عائد إلى بيته، ولكن كيف فالضوء عاد مرة أخرى إلى الغابة؟!
هل سأتمكن من الذهاب حقًا؟!
لم يجرؤ أحد يومًا على أن يعبر إلى جهة الغابة..
ثم نظرتُ إلى الجسر الخشبي المتهالك فوق البحيرة، وسمعتُ صوتًا في قرارة نفسي يحدثني أنه حان وقت العبور، يجب أن تفعل الآن ..
أعلم جيدًا أنه قد مرت سنوات طوال منذ أن عبر أحدهم، ولكن لا، لن أعبر للجهة الأخرى، هيا ..لتعد إلى بيتك يا أندريا ..
وبالفعل هممتُ بالعودة ..
وما إن ابتعدت عن البحيرة ببضع خطوات، حتى سمعت صوتها، أجل لا زلت أذكره .. كأننا إلتقينا بالأمس ..
كأن صوتها قد حفظ بداخلي على مدار العام…
أندرييييا .. أندريا ..
وبدأ يردد صدى صوتها في المكان من حولي، ولكن كيف هي على الجهة الأخرى؟!
هل جاءت لتبحث عني؟!
هل لا زالت تذكرني؟!
هل تحتاج إلى مساعدتي؟!
ولكن ما الذي أتى بها في هذا الوقت، وكيف علمت بقدومي؟!
وبينما أصارع نفسي بين الذهاب إليها أو العودة إلى بيتي كان صوتها لا زال يُناديني ..
ثم حسمتُ أمري للذهاب إليها .. وبدأت أخطو نحو الجسر المتهالك، وبمجرد صعودي عليه وسيري بدأت تتساقط أجزاء منه، لذلك كنت أتوخى الحذر أثناء عبوري عليه، خشية أن أسقط في الماء ..
وصلتُ للجهة الأخرى ورفعت رأسي قليلًا لكي أرَ الضوء، ولكنه كان قد اختفى، ثم لاح من بعيد .. فعزمتُ الذهاب خلفها، تحركتُ لداخل الغابة وكان القمر حينها قد توج بدرًا على عرش السماء .. ..
ثم على بصيص الضوء الخافت المنبعث بين الأشجار، خطوتُ وبداخلي يرتعد، كانت هناك الكثير من القصص التي تروى عن الغابة، ولكن لا بد أنها كانت مجرد خُرافات، لا بأس أندريا .. يمكنك أن تفعلها .. لم تعد طفلًا صغيرًا لتصدق الأقاويل والحَكايات ..
بدأت أناديها: أيتها السيدة … هل أنتِ هناك؟!
ولكن لا أحد يُجيب، وكأن الغابة تحمل طابع الهيبة، لا يوجد بها عصفور يخرج صوته ليكسر صمتها، حتى الأشجار لا تسمع حفيفها ..
كأن الغابة على أن تشهد أمرٌ جلل ..
عُدت لمناداتها من جديد .. ولكن لا إجابة .. وأثناء سيري تعثرت في حجرٍ ما فسقطتُ على وجهي مغشيًا عليَّ ..
استيقظتُ في غرفة لا أعلم ماهيتها تحمل طابع غريب لم أشاهده من قبل ..
يكسوها اللون الأسود .. وأضواء خافتة تضيء الغرفة من قناديل وليست مصابيح كهربائية، كأن من يسكنه لم يرى أن هناك ألوانًا أخرى في العالم وتكور يجب أن يواكبه، نهضتُ من الفراش وتحركتُ لكي أتحقق أين أنا، حملتُ إحدى الشموع في يدي، وبدأت أنادي بصوتٍ جهور: هل من أحدٍ هنا؟!
هل هناك من يسمعني؟!
ولكن لا إجابة..
ثم وجدتني أمام مرآة ضخمة، ولكن حين نظرتُ إليها لم أراني ..
تعجبتُ كثيرًا فالأموات فقط هم من لا تنعكس صورهم في المرآة .. نظرتُ من جديد ولكن نفس الشيء، أيعقل هذا؟!
هل غادرت الحياة؟!
هل أنا في الجحيم الآن؟!
فلا شيء هنا يدل على أنها الجنة .. يا ويلي ما هذا الذي يحدث بحق الإله؟!
خرجتُ من الغرفة لأجد ممرًا طويلًا ينتهي عند درج ما، تقدمتُ في خطواتي، وبينما هممتُ بهبوط الدرج أوقفني صوتها من جديد: أين تذهب الآن أندريا؟!
ألتفتُ إلى الصوت، ولكنني لم أراها، كان فقط صوتها الذي يدل على وجودها…
هي: أندريا لا يمكنك الذهاب، لقد كنتّ أنتظرك..
اندريا بحيرة: أنا؟!
هي: نعم، لقد مرت سنوات طوال منذ أن رأيتُك فيها..
أندريا ولا زالت الحيرة تتخلل صوته: هل تقصديني أنا؟!
هي: أجل أنت لا غيرك ..
أندريا: ولكنني لا أعرفكِ .. من أنتِ؟!
هي وقد تقدمت في خطواتها إليه ورفعت الضوء قليلًا لكي يرى أحدهم الأخر ..
كانت فاتنة للغاية كأميرات الأساطير والحكايات، ولكنها كانت عينيها منطفئة وحزينة ..
أندريا: أنتِ …
هي: أجل أنا ..
انتبه قليلًا وتذكر أنه رآها في صفه العام الماضي، وليس هذا فقط بل كانت الفتاة التي جاءت إلى مكتبه لكي يسرع في إلقاء المحاضرة .. لحظة عابرة، وموقف يكرر معه كل يوم حين يتأخر، ولكن لمَ جعلته هي مميز، كيف لها أن تكون بين طلابي دون أن ألحظ ذلك ..
أخرجتني من شرودي وقالت: أنا ليس كما تراني..
أندريا وقد بدت على وجهه علامات التعجب: كيف؟!
هي: هكذا لقد ترابط قدري بك ..
أندريا محاولًا أن يستفهم الأمر: ولكن تلك الفتاة لا تُشبهك ..
فرفعت حاجبها ثم قالت: وهذه أيضًا لا تُشبهني ..
أندريا وقد تفاقمت حيرته: كيف هذا؟!
هي: فلتأتي معي ..
أخذتني من يدي إلى تلك الغرفة التي غادرتُها منذ قليل، وتوقفت بي أمام المرآة الضخمة ثم قالت: فلتنظر الآن .. هذه أنا ..
أندريا وهو يقترب من المرآة بما يحمله في يده من ضوء، لكي يراها جيدًا .. وما إن رآها حتى سقط المصباح من يده، وتعثر في فراش الأرضية كأنه رأى شبحًا ما …
ولكنها حملت المصباح وجلست إلى جواره وقالت: هذه أيضًا ليست حقيقتي ولكنها أنا الآن ..
أندريا وهو يحاول أن يسترد رابطة جأشه: أخبريني ما الذي يحدث؟! ومن أنتِ؟!
ولمَ أنا؟!
هي: أدعى جين .. وسوف أسرد لكَ قصتي، وأُجيبك أثناء ذلك على تساؤلاتك التي أراها تلمع في عينيك ..
هلا نجلس أولًا ..
أندريا بيأسٍ شديد وفضول قد اعتراه قال: لا بأس .. ولكن أين سنجلس ..
جين: ربنا البهو السفلي مناسب كثيرًا لما سأسرده لكَ، لذلك لنذهب إلى الطابق السفلي ..
أندريا: ولمَ لا نجلس هنا لتروي قصتك ..
جين: ربما ستكون بحاجة إلى أن تشاهد الأمر بنفسك ..
أندريا: وكيف ذلك؟!
جين: حين ننزل إلى الطابق السفلي ستعرف بنفسك ..
وبالفعل فعلنا وما إن خطوت أولى خطواتي في هذا الطابق حتى بدأ كل شيء يتغير من حولي، القصر الذي لا يوجد بها حياة عادت تدب به الحياة، وأضحى هناك أطفالًا حولي يلعبون، لا أحد يراني، ولكن هناك كانت تجلس فتاة في غرفة المكتب، فوجدتني أتحرك في اتجاهها.. وما إن اقتربت منها حتى وجدتُها فتاة جميلة ذات شعرٍ بني، وملابس راقية وعيون هادئة تشبه البحر في استقراره، ولكنه حين يثور وتعصف به الأمواج يتحول إلى اللون الداكن، كانت هكذا رائعة .. لم أتعرف إليها، ثم سمعت صوتًا من خلفي ..
جين: هذه أنا يا أندريا ..
أندريا: ولكن كيف؟!
هل أنتِ من العصور الوسطى؟!
هل مر على وجودكِ هنا قرون؟!
كيف يمكن لذلك أن يحدث؟!
هذا فقط نراه في القصص والروايات لا يوجد شيء مثل هذا في الواقع ..
جين: ليس كل ما تقرأه يكون على الورق فقط ..
هناك الكثير من الحكايات التي لم تروى بعد ..
أندريا: ولكن كيف؟!
وبمجرد الانتهاء من سؤالي حتى حلَ الليل .. وذهب الأطفال إلى نومهم، واستقبلت الفتاة زوجها العائد من عمله بلهفة واشتياق .. وكان على وجهه الأرهاق والإعياء الشديد ..
فقالت: باتريك هل أنتَ بخير ؟!
باتريك وهو يحاول أن يتماسك: لا أدري يا جين .. ولكنني لستُ بخير ..
و فجاءة عصف بها كل شيء، سقط زوجها بين يديها، ظلت تناديه: باتريك .. باتريك ..
ولكنه لم يُجيب ..
توقف المشهد للحظات ..
ماذا حدث؟!
اقتربت من زوجها لأتفحص شكله صُعقت، فقد كان كأنه أنا تمامًا، ولكن الأختلاف الوحيد بيننا كان علامة على يده .. نظرتُ إليّ أتفحصني جيدًا، ولكنها لم تكن هناك ..
أخبريني كيف هو أنا؟!
جين: في الحقيقة أنتَ هو ..
أندريا: أرى ذلك ولكن كيف؟!
لنكمل حتى تستطيع أن تفهم كل شيء..
وبالفعل عاد الأمر يُعرض من جديد، ورأيتُها تُرسل إحدى الخادمات إلى الطبيب القانط جوارهم،
وحين جاء كانت قد نقلته غرفته مع الخدم، وكانت غرفتهم هي الغرفة التي استيقظتُ بداخلها منذ لحظات ..
وحين جاء الطبيب أخبرها أن زوجها ليس به شيء عضوي، جميع أجهزته الحيوية تعمل بشكلٍ جيد..
إذًا ماذا به؟!
الطبيب: سنتنتظر إلى أن يستيقظ ..
جين: حسنًا.. شكرًا لك ..
غادر الطبيب ومرت الأيام ولا زال وضع زوجها النوم ..
كان الطبيب يأتي لزيارته كل يوم ولكن انتهي الأمر ذات ليلة عاصفة يتخللها مطر السماء، وتجوب الرياح أركان قصرها وتفتك بها وبروحها، رحل زوجها في يوم مولده حين أتم الثلاثين عامًا، كأنه كان ينتظر أن يُكمل الثلاثة عقود ثم يرحل ..
رحل في صمتٍ جارف، رحل دون أن يخبرها ماذا حدث له؟!
ظلت في حيرتها ترعى أطفالها الصغار ..
وذات يوم كانوا يلعبون في الخارج وهي تشاهدهم من الشرفة، اقترب منهم رجل لا تظهر ملامحه ولكن هيئته تثير الشكوك، فحاولت أن تنادي طِفليها، ولكنهم لم يستجيبوا لها، وحين عادوا سألتهم عن الرجل فقالوا: أي رجل يا أمي .. لم يكن هناك سوانا ..
تعجبت جين من الأمر، أيعقل أنها توهمت وجود شخصٌ ما؟!
ولكن لا هي على يقين تام أنها رأت أحدًا هناك بقرب أطفالها .. مرت الأيام وأصيبَ طفليها بحمى شديدة أودت بحياتهم، في أقل من شهر فقدت زوجها وطِفليها ..
من يخبر هذه المكلومة أن الأمر كان لعنة وليست مصادفة، وهذا ما ستدركه حين يأتي الرجل بعد شهور ليقف أمامها ويخبرها: مرحبًا يا جين …
جين من بين دموعها المنسدلة على وجنتيها: من أنتَ؟!
الرجل بضحكات متتابعة: أنا من سلبكِ كل شيء ..
جين وهي تحاول أن تتماسك: لا داعي للمزاح أيها السيد أنا لا أعرفك ..
الرجل: ولكنني أعرفكِ جيدًا ..
فلتدققي في ملامحي .. وتحاولي تذكري ..
جين: لا لم أراكَ من قبل .. ربما تُريد جين غيري ..
الرجل وهو يقترب منها: لا جين غيرك هنا ..
رأيتُ الرجل معها، كأنني رايتُه بالأمس القريب ..
أندريا وهو يحاول أن يستوعب الأمر برمته: ماذا حدث؟! ومن هذا الرجل؟!
جين: شاهد بنفسك .. لتعرف من هو؟!
أندريا وهو يعود خطوات إلى الوراء .. بعد أن تبدلت ملامحه مجددًا ..
أنا أعرفه، قد رأيته من قبل .. وبدأ يحاول استعادة ذاكرته، ثم قال: أجل إنه هو الذي رأيته من قبل .. إنه الرجل الذي كان حول سيارتي .. ولكنه كان واضحًا هذه المرة ..
نظرتُ إليها: جين إنه الرجل الذي رأيته منذ بضعة أيام حين مررتُ من الطريق الذي رأيتُ قصركِ فيه ..
القصر .. أجل .. لمَ ظهر قصرك لي؟!
جين: لقد أخفاه عن البشر أجمع، وحين أتيت تلك الليلة ورأيتُكَ تعجبتُ كثيرًا .. أنا هنا حبيسة منذ سنوات طوال يا أندريا ..
اندريا: ولكن لمَ؟!
جين: أشارت إليه وكان مشهد الرجل وجين قد توقف أثناء حديثهم ..
ثم قالت له: لترى بنفسك ما حدث ..
تبدلت ملامح القصر من حولهم إلى الحال الذي عليه الآن، بهتت ألوانه وطغى الأسود عليها .. أُغلقت المصابيح وأضحى الظلام هو الطابع الغالب على القصر ..
أندريا وهو ينظر حوله، ويرى التغير الذي يحدث من حوله، في ذهول وصمت .. ثم نظر إليها وقد رقَ لها: ماذا حدث لكِ با جين؟!
هل انتهى بكِ الحال وحيدة في عالمٍ تغلبه القسوة والجمود؟!
جين وقد أُغرقت عينيها بالدموع: لم تكن هنا يا باتريك لتؤنسني، ولكن لا بأس ها قد عُدت ..
أندريا: أندريا .. أنا أندريا..
جين وهي تحاول تلافي الأمر: أجل .. أندريا ..
ثم نظرتُ مجددًا إلى الفتاة الجالسة في حزنها، والرجل الواقف أمامها ..
الذي كان يردد .. لقد انتهى كل شيء، وأنتِ أيضًا ..
وبينما كانت تحاول النهوض، أشار إليها بالعصى التي صُنعت من خشب الصندل وفي نهايته شيء يشبه البلورة السحرية المصغرة،وألقى عليها تعويذة جعلتها تتحول إلى عجوز شمطاء..
فنظرتُ إليها .. هل هذه أنتِ؟!
نظرت إلي وقالت: إنها أنا التي يراني عليه الناس حين أخطو خطوة خارج القصر .. ولكن هنا أنا أكون أنا .. ولكن يمكنني أن أتخذ أي شكلٍ أريده .. وبدأ هذا الأمر منذ مولدك ..
أندريا: اصبحتِ قادرة على تغير شكلك فقط خلال الثلاثين عام السابقة ..
جين: أجل ..
أندريا: ولكن لمَ؟!
وكيف مولدي به تغيركِ؟!
جين: لا أعلم، لقد اختفى الرجل منذ ذلك اليوم، وكنت أبحث عنه في شتى البقاع ولكنني لم أجده ..
أندريا: يبدو أنه هو من يجدُنا .. سيأتي يا جين ..
جين: وما جعلك تتيقن من ذلك!
أندريا: أعلم أنه سيأتي ..
أخبرتها بذلك وقد بدأت بعض الافكار تتبادر إلى ذهني، وحينها تذكرت أنه قد اقترب يوم مولدي، و ربما حينها فقط سيأتي ..
لا بد أن هناك أمر جلل سيحدث حينها ..ولكن ما سيكون؟!