✍️ يوحنا عزمي
الضربة العسكرية الأمريكية التي استهدفت منشآت نووية في إيران تمثل منعطفًا حاسماً في مسار الأزمة الإقليمية ، لا بوصفها مجرد عملية عسكرية محدودة ، بل كإشارة مباشرة على دخول واشنطن رسمياً في مسار التصعيد المفتوح ضد طهران بعد سنوات من سياسة الاحتواء والتهديد غير المباشر. إيران ، التي تلقت هذه الضربة في وقت بالغ الحساسية داخليًا وخارجياً ، لن تقف عند حدود التصريحات الغاضبة أو البيانات المنددة. النظام الإيراني يدرك أن أي تراجع أو تساهل في الرد سيعني اهتزاز صورته أمام الداخل والخارج ، خاصة أمام حلفائه في محور المقاومة ، لذلك فإن الرد الإيراني بات مسألة وقت وليس خياراً محل نقاش.
المتوقع أن تبدأ إيران بتفعيل أدواتها المنتشرة في المنطقة ، من الحوثيين في اليمن إلى الحشد الشعبي في العراق، وصولاً إلى حزب الله في لبنان ، ما يفتح الباب أمام تصعيد شامل لا يقتصر على مسرح العمليات الإيراني وحده ، بل يمتد ليطال إسرائيل ودول الخليج وحتى المصالح الأمريكية المنتشرة في الشرق الأوسط. هذه الأدوات العسكرية غير النظامية قد تكون الخيار الأول لطهران لتجنب الانزلاق المباشر في مواجهة شاملة مع واشنطن، وفي ذات الوقت لإرسال رسائل واضحة بأن المساس بالأراضي الإيرانية سيكلف الجميع أثمانًا باهظة.
من جهة أخرى ، يمكن لإيران أن تلجأ إلى التصعيد النووي الرسمي، عبر إعلان الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي ، وهو ما سيمنحها غطاء قانونيًا لاستئناف تخصيب اليورانيوم بنسبة 90%، وهي النسبة اللازمة لصنع القنبلة النووية، ما سيضع المنطقة والعالم أمام واقع جديد كليًا ، واقع تصبح فيه إيران دولة على أعتاب امتلاك السلاح النووي ، الأمر الذي قد يدفع إسرائيل إلى توجيه ضربة استباقية شاملة، ويجعل المواجهة الكبرى مسألة وقت فقط.
أما داخلياً ، فسيحاول النظام الإيراني استثمار هذه الضربة لتعزيز وحدة الجبهة الداخلية ، من خلال تعبئة الرأي العام خلف شعارات “المقاومة” و”السيادة الوطنية”، وهي ورقة طالما نجح النظام في استخدامها لتجاوز الأزمات السياسية والاقتصادية. وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن تشن طهران هجمات سيبرانية مكثفة ضد أهداف أمريكية وإسرائيلية ، في محاولة لضرب المصالح الحيوية لهاتين الدولتين دون الانجرار إلى مواجهة عسكرية مفتوحة.
الخطر الأكبر في هذه اللحظة يتمثل في أن جميع الأطراف دخلت مرحلة يصعب فيها التراجع دون فقدان الهيبة أو المصداقية، وهو ما يجعل إمكانية حدوث سلسلة من الضربات والردود المتبادلة أمرًا واقعيًا وليس مجرد احتمال نظري. فإيران ، التي ترى أن صمتها سيُقرأ ضعفًا، لن تكتفي بالتصريحات، والولايات المتحدة، بعد هذه الخطوة، لن تقبل بعودة إيران إلى مسار التصعيد النووي بلا رد.
كل هذا يضع الشرق الأوسط على أعتاب مرحلة أكثر اضطراباً حيث قد يكون “اليوم التالي” لهذه الضربة هو بداية لسلسلة من الأحداث التي ستعيد رسم خريطة المنطقة لعقود مقبلة.
ورأيي التحليلي الصريح أن إعلان إيران نقل معداتها النووية قبل الضربة هو نصف حقيقة ونصف حرب نفسية.
منطقياً ، لا يمكن استبعاد أن إيران نقلت بالفعل بعض المعدات الحساسة، فطهران تدرك منذ شهور أن ضربة إسرائيلية ـ أمريكية قادمة ، خاصة بعد التصريحات المتكررة من تل أبيب وواشنطن والتصعيد الأخير في لبنان وسوريا. أجهزة الاستخبارات الإيرانية قوية في هذا المجال، وتملك باعاً طويلاً في التضليل الاستراتيجي منذ أيام الحرب مع العراق وحتى اليوم.
لكن في نفس الوقت ، هذا الإعلان ليس فقط لنقل حقيقة استخباراتية بل له أهداف واضحة :
تهدئة الداخل الإيراني الذي شعر بالإهانة والقلق بعد الضربة وتوجيه رسالة للخارج بأن “البرنامج النووي بخير ولم يتضرر”، كنوع من الردع الإعلامي للقول : “لم تحققوا شيئاً فعلياً”. هذه محاولة لتقليل قيمة الإنجاز الإسرائيلي الأمريكي عسكرياً وسياسياً.
المشكلة هنا أن هذا التصريح بحد ذاته يكشف ضعفاً آخر:
إيران الآن مُلزمة بالرد حتى لا تظهر وكأنها فقدت هيبتها دون ثمن. الضربة وقعت بالفعل ، بغض النظر عن الخسائر ، ومعناها أن واشنطن وإسرائيل كسرتا الخط الأحمر ، فإما أن ترد إيران بعمل مباشر (عسكري أو سيبراني) وإما تخسر صورتها أمام خصومها وشعبها ومحور المقاومة كله.
بالتالي : حتى لو تم نقل المعدات فعلاً ، فالضربة ناجحة سياسياً ومعنوياً وأمنياً لأنها جعلت إيران في موقف دفاعي مكشوف، وقد تُعطي غطاءً دولياً لضربة ثانية أشد ، خاصة لو ثبت أن المواقع البديلة مكشوفة للأقمار الصناعية أو الجواسيس.
إيران تحاول “حفظ ماء الوجه”، لكنها الآن في مأزق أكبر.
إما التصعيد الحتمي ، وإما القبول بمرحلة جديدة من الضعف الاستراتيجي. والغرب ، على الأرجح ، ينتظر كيف سترد طهران ليحدد خطوته التالية.
بمعنى آخر : الضربة نجحت حتى لو لم تُصب شيئاً ملموساً.