ملك كرم الهواري.
أغدو تحت وطأة الذكريات، أجرُّ ما تبقَّى لي منها وأعيش، أنادي كل مارٍ: هل من سبيلٍ للنسيان؟ للعيشِ بلا ذكريات تُئنُّ جُرحي كل يومٍ؟
صديقتي الغائبة، تفتَّحت زهرتنا سويًا، هنا كنا نمرح ونلهو، ندغدغ بعضنا البعض، ونضحك من أعماقِ قلوبنا، غير حاملين لهمومٍ ولا أوجاع، كان نقاؤنا يُحرِّكنا صوب الحياة، نشد على أيدي بعضنا ونردد: لن نخالف عهد صداقتنا، فسنظل سويًا أبد الدهر.
هنا على المقعدِ المدرسي، كنا نتداعب ونتخاصم، ويضربنا المعلمون أيضًا إن أزعجناهم، فنجلس وتلامس أيدينا أيدي بعضنا؛ كي نخفف الألم، ونضحك كل فنيةٍ حال نذكر السبب، وكأن شيئًا لم يكن.
هنا كنا ننتظر أمهاتنا، ونتساير ضاحكين، يقص بعضنا على بعض آخر الأخبار المنزلية، وماذا اشترينا من لعبٍ وملابس؟ ومتى ستغادرين إلى بلدتكِ لقضاء إجازة نهاية الأسبوع؟ هنا كنا لا نحمل أعباءً تُثقل كاهلنا يا صديقتي، ولا نجرُّ الخيبات جرًا، ونزحف؛ كي نعيش فقط.
صديقتي، حالت بيننا الحياة، وسِرنا في مفترقِ طُرُق سرمديّ، كُلٌ منَّا اتخذ مساره ولا يعبأ بالآخر، لكن شتّان بين قلبٍ تسكنه الذكريات، وقلبٍ لاهٍ عنها.
أخبرتكِ يومًا أنَّ قلبي مكلوم، يخشى الفراق والمضي قدمًا إلى طريقٍ يوقن أن آخره بُعد لا محالة، فشددتِ على يديّ بحنوٍ وقُلتِ: وأنا هنا؛ كي أُزيل عنكِ الكلم، وأبثُّ الطمأنينة والأمان داخلكِ، ما الصديقُ إلا مأمنٌ وملجأ.
لكنني لم أدرِ حينها أنه لا ملجأ من بعدكِ أبدًا.
لم تعد تصلني أخباركِ قط، أو بالأحرى لم أعد أعرفكِ، لم تتبدَّل الوجوه، لكن تبدَّلت القلوب وتغير ساكنيها، صِرنا عابري سبيلٍ في حياةِ بعضنا البعض، تجمعنا الحياة فقط عند الحاجة، وكأننا لم نكن سويًا، لم نكن أقرب الأقربين!
عرفتُ الكثيرات من بعدكِ، وفارقتهن جميعًا، لم أعثر على من تشبهني، من تحمل قلبًا صادقًا نقيًا، يُحب بإخلاصٍ، لا يكره الخير لصاحبهِ ولا يكمن الشر ويقابله بوجهٍ باسم وما خفي عظيم، لم أعثر بعد على من تداوي قلبي المكلوم، وندباته التي لا تُعد كما كنتِ تداوينها بكلمةٍ منكِ، أو ببسمةٍ.
لقد تغيرت رغباتي وأحلامي، تغيرت ملامحي بعض الشيء، لكنني لم أتغير بيد أن كلِ شيءٍ قد تبدَّل، لم أزل صديقتكِ الأولى، من تلامس يدها يدكِ؛ لتخفف الألم، من تشد عضدها بكِ؛ لتواجه نوائبِ الدنيا، من يطمئن قلبها المرتجف، ويهدأ روعها الدائم حالما تشددين على يدها وتضمينها إليكِ؛ فتسكن روحها ويُبَثُّ الأمان فيها بيد أنني بِتُّ لا أجد من ألامس يده، فحتى الألم قد تبدَّل مكانه وسكن قلبي، وهجرني الأمان كما لو لم يزُرني قط.