مقالات

الكتاتيب .. حين تُعلن الدولة عجزها عن أن تكون دولة

✍️ يوحنا عزمي 

في اللحظة التي يطرح فيها أحدهم مقترحًا بالعودة إلى “الكتاتيب” كبديل لمؤسسات التعليم الرسمي، لا ينبغي أن نتعامل مع الأمر كحل طارئ لأزمة تعليمية ، بل كمؤشر صادم على عمق الأزمة الشاملة التي تعصف بجسد الدولة المصرية – لا النظام السياسي فحسب بل الدولة كفكرة وبنية ومؤسسات.

العودة إلى الكُتاب ليست مجرد ارتداد عن الحداثة التعليمية ، بل إعلان ضمني عن عجز الدولة عن أداء وظيفتها الأولى : تشكيل المواطن. فالمدرسة ، تاريخياً ، لم تكن مجرد مكان لتلقين القراءة والحساب ، بل كانت وما زالت الأداة الجوهرية التي تُنتج عبرها الدولة الحديثة مواطنيها. إنها المؤسسة التي تُعلم الفرد أن هناك “وطناً” اسمه مصر ، له حكومة وشعب وسيادة. من دون المدرسة ، لا يمكن تصور هذا “الوطن” في أذهان الناس ، ولا يمكن بناء فكرة “الانتماء” و”الشرعية” و”السلطة الحديثة”.

مقترح الكتاتيب يكشف عن اضطراب أعمق : الدولة لم تعد قادرة على تمويل التعليم ، ولم تعد تملك رؤية لإصلاحه ، فتبحث عن مؤسسات موازية – دينية بالضرورة – لسد الفراغ. والكارثة أن هذا لا يحدث في دولة دينية ، بل في دولة ترفع شعار “الجمهورية الجديدة” و”الدولة الوطنية”.

هنا تتجلى المفارقة الفادحة : دولة تأسست على الانقلاب على مشروع ديني سياسي ، تُعيد إنتاج أزماته ، من حيث لا تدري ، بل وتفتح له المجال ليحل محلها في تشكيل الوعي العام. وبدلًا من الدفاع عن المدرسة كمؤسسة مدنية قومية تصهر الاختلافات الدينية والعرقية والطبقية في بوتقة واحدة، تلجأ الدولة إلى حلول تُمزق نسيجها الداخلي وتُنذر بتفكك اللحمة الوطنية.

السؤال الجوهري : لماذا لم تُطرح هذه الإشكاليات على طاولة النقاش عند الحديث عن العودة للكتاتيب؟ لماذا غاب عن أصحاب القرار أن أجهزة الدولة – التعليمية ، الإعلامية ، الدينية ، الأمنية – لا تعمل بمعزل عن بعضها ، بل في تناغم محكوم بإطار فكري جامع تُعرفه الأدبيات السياسية بـ”الأيديولوجيا”؟

وفقًا لتحليلات منظرين كبار كغرامشي وألتوسير وبولانتازاس ، فإن الدولة لا تستقيم فقط عبر أدوات القمع ، بل عبر ما يسمونه “أجهزة الدولة الأيديولوجية” – المدرسة ، الإعلام ، السينما ، دور العبادة. هذه المؤسسات لا تُقنع فقط ، بل تُشكل وعي المواطن وتُرسخ الشرعية الرمزية للنظام. ومن دون أيديولوجيا جامعة تنسق بينها ، تتحول كل مؤسسة إلى جزيرة منعزلة ، بل متضادة أحياناً ، وتنهار فكرة الدولة.

في الحالة المصرية ، نعيش أزمة غياب هذه الأيديولوجيا الجامعة. تتناثر شعارات “الدولة الوطنية”، و”الجمهورية الجديدة”، و”الأمن القومي”، دون أن تتوحد في سردية رمزية متماسكة تُقنع المواطن وتلهمه. الطبقة الحاكمة، المتمثلة في تحالف متشابك من الرأسمالية العسكرية والعقارية والمالية ، لا تملك تصوراً واضحًا للدولة التي تريد ، ولا للمجتمع الذي تطمح لبنائه ، ولا للمواطن الذي تسعى لتكوينه.

الأخطر من ذلك ، أن هذا الغياب يُنتج حالة من الفوضى داخل مؤسسات الدولة نفسها : التعليم ينهار ، الإعلام مُشوش ، الدين يتمدد في فراغ السياسة ، الفن مشلول ، والجامعة مُحاصرة. الدولة باتت تعمل في اتجاهات متضادة ، وتفقد تدريجيًا قدرتها على إعادة إنتاج ذاتها. ومع الوقت ، يصبح الأمن هو الغطاء الوحيد المتبقي ، وتختفي الشرعية الرمزية ، ويتحول المواطن إلى كائن ساخط أو لا مبالٍ.

اقتراح العودة إلى الكتاتيب ليس مجرد مشروع فني أو تعليمي ، بل تجل صارخ لفقدان المشروع الوطني ، وانهيار السردية الأيديولوجية ، وارتباك الدولة أمام سؤال : ما الذي نريد أن نكونه؟

لا يمكن لدولة أن تحيا وتستمر دون تعليم ، ولا يمكن لتعليم أن يُختزل في تحفيظ ديني. لا يمكن لدولة حديثة أن تُسلم مستقبلها لمؤسسات بديلة لا تؤمن بفكرة الدولة نفسها. إن الدولة التي تستبدل المدرسة بالكتاب ، إنما تُقر صراحة أنها لم تعد تعرف كيف تكون دولة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!