ابداعات

«رسالةٌ من مفارق»

 

 

ملك كرم الهواري

 

 

احترتُ كيف أبدأ رسالتي، مرحبًا أم وداعًا لفراقنا؟ أتعرفُ يا عزيز، الأمر أشبه بطائرٍ أضاع سربه؛ فضاعت هُويته بين الأغرابِ، لم يكن الفراق يومًا هينًا يا عزيز، لكن ما بيديّ حيلةً، الأزمة تزداد، وتضيق بي الدنيا كلما جاهدت وأرغمت نفسي على المحاولةِ هنا بيد أنَّها تبوء بالفشلِ كل مرةٍ.

 

 

استعدتُ رباطة جأشي، محوتُ دمعتي، مارستُ الضحك وقلبي مكبلٌ بالذكرى، حزمتُ أمتعتي، روحي تُنصت قبل أذني لبكاءِ أمي وأختي، تنهيدةُ أبي الثقيلة ومكابرته للبكاءِ كعادتهِ، لكنني على يقينٍ ببكائهِ وحده ليلًا كلما تذكر رحيل ابنه البكري، وأنه الآن يجابه الدنيا كفارسٍ وحيدٍ في ساحةِ المعركة.

 

 

شهقاتُ أمي يا عزيز اقتاتت من قلبي، أخبرتني بألمٍ: البعيد عن العين بعيد عن القلب يا ولدي، لا تقطع بالغربةِ وصال أرواحنا!

في أثناء صعودي إلى السيارة قال أبي بنبرتهِ الحكيمة: على الأقلِ أنت بين أهلك، وإن كنت غريبًا عن وطنك.

 

 

لكن يا عزيز، الغريب عن وطنه غريبٌ عن أهلهِ ونفسه، كيف ينسى المرء خذلان وطنه، أو بالأحرى كيف يمضي المرء بلا وطنه؟

 

قد حزمتُ أمتعتي، ودعتُّ عائلتي وعانقتهم لآخرِ مرةٍ قبل أن أغدو غريبًا في دنيا قاسية، تسعى فيها نفوسنا حتى تهترئ كما الثوب البالي، ولكن ما عليها سوى السعي والمحاولة ألفًا!

 

 

غادرت جسدًا بلا روحٍ يا عزيز، تركتُ روحي في وطني، بين أحضانِ أمي الحنونة، ربتِ والدي وحكمته، عراكي مع أختي وصوتها العذب وهي تناديني ليلًا بخفوتٍ: حازم! ألازلت مستيقظًا؟ وعناقك يا عزيز بعد بوحٍ طويل عن قسوةِ الدنيا.

 

 

خمسة وعشرون عامًا وأشقتني الحياة بما لا يسع قلبي، ليس قلب شابًا، بل طفلًا يرى الدنيا بعينِ البراءةِ، لا بعينِ الإنهاك.

 

الغُربة قاسية، تسلبك السعادة، الهُوية، والدين، الوطن، الغُربة تجعلك غريبًا عن نفسك يا عزيز، ترى صغائر الأمور كبيرة ومخيفة، تطالع نفسك في المرآة فترى روحًا أنهكها طول السعي، روحٌ وحيدة بائسة، روحٌ نست كل شيءٍ ولم تنسَ جذرها، روحٌ فقدت كل ما تملك، فقدت أمنًا وحبًا، دفئًا وفرحًا، وأحلامًا!

 

 

أخبرتك يا عزيز أنني متعب، أمضيت عمري أحلم ولا أنال أحلامي، بل أراها في أيادٍ أخرى لم تخطُ تجاهها وجاءتها على صحنٍ من ذهب، شكوتُ إليك ضعفي، أنا الذي ما رجوتُ سوى الوصول بعد طول سيري في طريقٍ لا أرى في نهايتهِ إلا الظلام، لكن بصيص الأمل داخلي أرغمني على المضي قدمًا مهما كانت النتائج، فأجبتني بقلبك الحاني: نحن أقوامٌ نسعى لا للوصولِ، بل لنبرئ ذمتنا أمام الباري أننا حاولنا ولو بالقليلِ.

 

 

وأنا حاولت بالقليلِ يا عزيز، فذبحتني الحياة بسكينِ الحقيقة المُرة، أنه لا مكان هنا لوصولِ من يستحق.

 

قصّ عليّ أبي التاريخ كعادتهِ يومًا، وأخبرني بروحٍ هائمة رغم الألم: يا بُني، بالرغمِ من قسوةِ الأوطان ولفظها، لكنها عزيزة، تسكن قلوب أبنائها، ولا تبرحها مهما فارقوها، أوطاننا حبيبةٌ وإن قست يا حازم.

 

أحدثك من واقعٍ أليم، لا ينسى المرء وطنه يا عزيز، لا ينسى الأحباب والرفاق، أحلامه المسلوبة، سعادته التي نُهبت من قلبهِ، وهزائمه المتتالية، لا ينسى.

 

 

من غريبٍ يناجي اللّٰه أن يعود إلى أمانهِ، أن يهبه محاولةً تعيد الأمل إلى روحهِ المهترئة؛ فلا يقنط من رحمةِ اللّٰه به، ولا ييأس من ألاعيبِ الدنيا، أن يكون غريبًا في وطنه، لكن بين أهلهِ /حازم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!