✍️بقلم/ انتصار عمار
في ليلةٍ صيفية، تدلت فيها عناقيد الشمس، وتمايل فيها الغصن، الذي يغرد فوقه رسولُ الهوى.
تلك الليلة التي انسابت فيها نبضات قلبه، بين نظرات عينيها في محيط الزمن، وصمتت فيها عقارب الساعة، واعتزل القمر فيها مجالس السهر.
يقف هذا العصفور، يترقب طلتها، ينتظرها، تسطع بين الحين والآخر، كشمسٍ في نهار شتاء قارس، وكأنه يترقب حياته عبر نافذة الزمن.
تُرى ما الذي دفعه إلى أن يغامر
بحياته، ولم يخش أن يجرحه زجاج النافذة، أو أن يصاب؟ ما الذي حمله على أن يضحي بنفسه، ولم يخش حتى الموت؟
وكأن أنفاسه تتلهف لرؤيتها، وقف خلف زجاج النافذة، كي يراها، وكأنما هو أسير، حبيس، تقيده الأغلال.
ولم يكن زجاج النافذة فقط هو الحصن المنيع، الذي يحجبها عنه، وكأنما ارتدى ثوبًا معتمًا، وراها عنه.
إنما خبأ له الليل بين صفحاته الحالكة، قدرًا حيك له ثوبًا من الأوجاع، أنهك جسده المتآكل من شدة لهيب الجوى.
إلى هذا الحد تمكن الهوى من قلبه، فأغشى بصره، وأسدل ستاره عليه؟ كليلٍ يسدل ستاره على الأرض، فلا تبصر شيئًا سوى ومضات النجوم.
قصة طويلة يرويها ذلك العصفور الجريح، الذي أصيب بسهم الهوى.
وإذ به يقف على حافة العش، الذي لطالما جمع بينهما، والدموع بعينيه تتساءل: لم هَجَرَتْ؟
نظرات عتاب، لقلب يبكي وجعًا، كنا سويًا، يظللنا قرص الشمس، تداعب أيامنا السعادة، وتسابقنا الفراشات، وتتمايل معنا وريقات الشجر، عندما نلهو.
أو نسيتِ سنابل القمح، التي كنا نلهو فوقها!
وبستان الورد الذي لطالما اقتطفت لكِ منه زهرة!
أو تذكري رائحة الزهرة، حينما قبلتها شفتيك؟
أو مازلتِ محتفظة بتلك الزهرة؟
أم ألقيتِ بها بعيدًا، في غياهب زمنٍ رحلت عبر لحظه رسائل الهوى، كما ألقيت بكل صفحات الهوى الممزقة، وسكبت بها في نهر العَبرات.
ألم تحن إلى عشك!
ألم تشتاقي إليّ!
ألا تذكري يوم طاردنا دبور المزرعة، وحملتك على عاتقي، وجريت بك مسرعًا، خشيةً ألا يجرح حمرة خديك!
أو نسيتِ يوم النوة، يوم حاصرتنا الرياح العاتية، والأمطار، فخلعت عني معطفي، وألبستك إياه!
خشيت على رقة جسدك، من برودة الشتاء القارس، وما خشيت على نفسي، ويوم مددت ذراعي مظلةً لك، كي أحميك من مطر الشتاء حتى لا يغرق براءة ملامحك.
كنت أخاف عليك كل شيء، حتى نسيم الصيف، إذا داعب وجنتيك، وأخشى عليك صوت غيرتي، إذا ارتطم بجليد الأرض.
أولا تذكري حين بت جوارك ليلة أصابك الإعياء، حين صممت أن تخرجي ذاك اليوم الشديد الحرارة، مع أصحابك، فأصابتك حرارة الشمس؟
كنت أموت لأجلك، وتمنيت ألو أصيب بدلًا عنك! وما ترددت في أن أنزع ريشي، وأنسج لكِ منه ثوبًا، لكنك يومها أقسمت عليّ؛ ألا أفعل.
وكانت تلك أجمل لحظة بحياتي، شعرت، وكأن الهواء يحملني على جناحيّ السعادة، ويحلق بي في سماء عيونك.
توهمت خطًأ، ظننتك تخافين علي، وإذ بك لا تريدين ملابس أخرى، حتى لا يزعجك الحر.
يا غائبًا عاد من جديد، ظننته عاد إليّ، لم عدت!
فالأشجار كما هي، والحياة، والزمان، والنباتات، وكل شيء بالحياة كما هو، لم يتغير، إلا أنا.
وحدي تغيرت، حينما غادرتيني، كُسرت، عجزت أجنحتي عن الطيران، فأجنحتي كانت أنت، أنسيتِ يوم سهرنا حتى الصباح، عندما تدلت نجمة السماء” نيروز!”
حينما اعترفت لكِ أمامها بحبي، حينها أتت الشمس، على عجل، كعادتها تتقصى الأخبار، تحملها نار الغيرة، وجلست جوارك، وسألتك!
يبدو أنك قد نسيت كل شيء، نسيت عندما كنت أطير، كي آتي لك بالحَب، وأُطعمُك إياه، ما كنت آكل، حتى تأكلي أنت.
وأظل جوارك طوال الليل، أداعب خصلات شعرك، وأقص عليك من دفء الروايات، ما يغمر العش حرارة، فلا تشعري برد الشتاء.
واليوم، ما عادت الشمس ترسل أشعتها الذهبية، وأطفأ الحزن وهج ابتسامتها، وكتب على أجنحتها المحلقة بأبراج السماء؛ ألا بقاء ولا خلود، ولا سطوع،
بعد جُرح أدمى قلبي.
اليوم أحمل لكِ رسائل وجع من قلب أحبك، أحمل لك باقات من الدموع، اليوم تنهار أعمدة جدران الهوى، وتخط دمًا قصائد العاشقين، اليوم ستُبتر ضحكتي، وتُسلبُ هويتي، وأتوه في مدن المجروحين.