بقلم: زينب عبد الحفيظ محمد
على أطراف البحر المتوسط، افترشت السماء سحبًا ثقيلة، واحتضنت رائحة البارود الأجواء.
اشتد الجوع، وشاع المرض، ومع تصاعد الأنين كانت الجدران تتصدع، وعلى وقع الخوف والحسرة سقطت عكّا بين يدي الصليبيين بعد حصارٍ دام نحو عامين.
لكن، هل تسقط المدن الشامخة إلى الأبد؟
لا، فقد استعادها المسلمون لاحقًا، حين فتحها المماليك عام 1291 بقيادة السلطان الأشرف خليل.
لم تكن عكّا مجرد مدينة على شاطئ المتوسط، بل كانت وتدًا للكبرياء ورمزًا للكرامة.
وقلب الزمان صفحاته، حتى وقف عند صفحة ممتلئة بالدخان، ومن بين سطورها ظهر نابليون وهو يجر جيشًا مكثّفًا بالنيران إليها.
وقف على أول الأسطر، وأقسم أن يجعل من أسوارها ترابًا تدوسه بيادق جنوده.
أصرّ، وقاوم، ودكّ صدره غضبًا، لكنه فشل، وعاد خائبًا مذلولًا يجر خلفه ضحكات التاريخ.
وطُويت صفحة حملته على عكّا إلى الأبد.
عكّا لم تكن مدينة بموقع استراتيجي مميز فحسب، بل رمزًا للصمود وصورة مزخرفة للعزّة.
زهقت من أجلها آلاف الأرواح.
رجال وقفوا كالصواعق، واحتضنوا الموت بحميمية كي يبددوا شرّ الطامعين عنها.
عيون جائعة تطلّ عليها كذئاب الصحارى تعوي، ناشرة الخوف في القلوب، لكن النضال والمقاومة دثّرا عكّا بجنح المهابة أمام أهلها، وأمام كل من ظن أنه قادر على امتلاكها.
قادها رجال شتى، وكرّسوا أنفسهم للسير بها نحو الأمان.
تهبط الأيادي المشرعة وتُقطع.
مدينة فلسطينية ثمينة، ذات تراث باهظ، ذاع صداها في الدنيا وأصبحت رمزًا من رموز القوة.
علّمت الدنيا أن الوقوف على خط النار من أجل الوطن ليس محرقًا، بل يصهر ويُعتّق قوة الأنفس.
وما زالت فلسطين ومدنها توقف العالم ليتأملها، عاجزًا عن فهم صمود أهلها.
نضجت الأرواح تحت اشتداد الامتحان، وكثرت المحن، وعاد التاريخ نفسه.
وجاعت مدينة أخرى ورفضوا التخلي عن الأرض.
رغم الانكسار والرصاص المتطاير، فجّرت الأرض، ولم يتفجّر صبر أهلها حتى يأس العالم وألف الأخبار المفجعة والكوارث التي تسقط عليها.
غدت مجرد أخبار عادية يتناقلها الصحفيون.
لكن النصر آتٍ لا محالة.
فإن صمدت عكّا ستصمد غزة.
هذه مدن لدولة واحدة، ولناس متوارث بينهم جينات القوة والكرامة.
لن تقع رغم أساليب الدناءة التي يستخدمها الصهاينة ذوو النفوس الخبيثة.
وسيأتي الزمان يومًا ليسطر على صفحاته نصرًا مروّعًا، يرعد أقوامًا لُعنوا طويلًا، وتشبثت بهم اللعنات… حتى أُسقطوا تحت أقدام الصمود.
سيرتفع كتاب التاريخ بالهواء، وتتسارع دفّاته بالتقليب بعشوائية، ثم يستقر على صفحة بيضاء تُدوَّن أعلاها بعنوان بارز يراه العالم أجمع:
“نُصر أبناء العزّة”.