ابداعات

كوابيس رقمية

 

 

شريف جلال القصاص 

 

تستيقظ احيانًا فجأة، وعرقك يتصبّب من حلم غامض، ثم تُقنع نفسك: “مجرد كابوس… انتهى”؟

ماذا لو تفتح هاتفك بعد دقائق، فتجد فيلمًا يُعرض على الشاشة… فيلمًا يحكي حلمك هو، بكل مشاهده، بكل أسراره التي لم يعرفها أحد غيرك

 

 

تخيّل أن أسرارك الأعمق لم تعد آمنة… أن هناك من يملك مفتاحًا يفتح أبواب عقلك الباطن، ويدخل إلى السراديب المظلمة التي لم تجرؤ يومًا على زيارتها، حجرات موصدة بإحكام، تُخزّن ذكرياتك المخزية، رغباتك المحظورة، وإشارات غامضة عن مستقبل لم تعشه بعد.

 

 الآن… تُزرع كاميرات خفية داخل رأسك، تلتقط كل مشهد، كل همسة، كل صورة تتكوّن في نومك… وتحوّلها إلى فيلم حقيقي يُعرض على شاشات الآخرين، إنه تجسّس يتجاوز غرف النوم المغلقة، وانتهاك أعمق من تعرية الجسد… إنه اقتحام لصندوقك الأسود، ذاك الذي كنت تظنه آخر ما تبقى لك من خصوصية.

 

 

في طوكيو، داخل مختبر عصبي بارد يُدعى “نيرو”، كان الزمن يتباطأ خلف جدران فولاذية معقمة، لا يُسمع فيها إلا أزيز الأجهزة وصفير الكهرباء.  

 

هناك وُلد مشروع “نيوروفيلمكس” الفكرة؟ 

أن تُفتح أبواب الدماغ كما تُفتح غرفة مظلمة سرّية…

 وأن يُعرض ما في الداخل كفيلم حيّ.

 

لكن الطريق إلى تلك السراديب لم يكن بسيطًا، ملايين النبضات الكهربائية تُترجم إلى شيفرات رقمية غامضة.

 

صور أوليه خرجت مشوّشة، وجوه بلا ملامح، أشباح تتحرك في ضباب رمادي، تم تطوير الأبحاث، لم تقتصر الأجهزة على قراءة إشارات الدماغ فحسب، بل تم تزويدها بملايين الذكريات البشرية المسجلة، من أبحاث سابقة وأرشيفات رقمية.

 

ملايين الملايين من الاحاسبس والمشاعر البشرية، دقائق المشاعر، الافراح و الاتراح، الأمل والإحباط …..كانت مخزنة داخل قاعدة البيانات، جاهزة لتُقارن بإشارات الدماغ أثناء النوم.

 

عندما يغلق المتطوع عينيه، لم يكن العقل وحده يُسجل… بل الأجهزة تقيس كل تذبذب، كل نبضة، كل موجة دماغية، ثم تبحث في الذاكرة البشرية العملاقة عن معادل لها.

 

كل مشهد يظهر على الشاشة هو مزيج بين حلم بشري وذكريات بشرية رقمية، مما جعل الرؤى أكثر وضوحًا وواقعية لدرجة أن حدود الحلم والواقع بدأت تتلاشى.

 

الأصوات لم تكن مجرد مؤثرات، بل ترددات مأخوذة من نبضات قلوب وصرخات ملايين البشر، تجعل الخوف يتغلغل في اللاوعي، وتترك أثرًا جسديًا محسوسًا: القشعريرة، تسارع دقات القلب، إحساس بالاختناق، شعور بالمرور في نفق مظلم لا نهاية له.

 

 

 

المتطوعون سقطوا ضحايا: نوبات صرع، صداع كأن الجمجمة تنفجر من الداخل، أحدهم صرخ قبل أن ينهار: “رأسي يحترق… من الداخل!”

 

ومع كل ذلك، ظلّ المدير “شيراتوري” متماسكًا، صوته بارد كالمشرط:  

“هذه مجرد آلام ولادة… لشيء سيُغيّر العالم.”

 

ثم ظهر المتطوع المختلف: 

يوتا هيوشي، شاب ياباني في الرابعة والعشرين، يعيش بلعنة نادرة تُدعى “الذاكرة الحُلمية”.

 

قال للطبيبة “ناستو”: “أحلامي لا تختفي… تظلّ تلاحقني كأنها حقيقة، أريد أن أعرف لماذا.”

 

بدأت التجربة، الضوء الأحمر يومض كإنذار خطر، الأجهزة أصدرت طنينًا أشبه بنبض قلب هائل في غرفة مغلقة.

 ثم ظهر الحلم:

 

سكين يرتجف في يده، يلمع كأنه يتنفس.

قطرات دم تتساقط ببطء على أرضية بيضاء، كل قطرة تصدر صدى كصوت ساعة عد تنازلي.

 

زجاج ينفجر فجأة، يملأ الجو برائحة معدنية حادة.

مرآة تقف أمامه: صورته هناك تبتسم ابتسامة شيطانية، بينما وجهه الحقيقي يصرخ رعبًا.

 

ثم خرجت يد باردة من عمق المرآة، قبضت على عنقه، وبدأ الهواء ينقطع…

 

استيقظ يوتا وهو يلهث، وجهه شاحب كالميت، “ناكادا” قال بصوت مرتجف: 

“نشاط دماغه… يتجاوز أي مستوى رأيناه.”

 

 

 ابتسم “شيراتوري” ابتسامة باهتة: 

“هذا… ما نبحث عنه.”

 

في التجربة التالية، أراد “شيراتوري” خطوة أبعد:

 بثّ الأحلام مباشرة، وما ظهر على الشاشة لم يكن حلمًا… بل محكمة علنية، الصورة على الشاشة بدت مشوهة قليلّا قبل أن تتضح، مصنع معتم، جثث ممزقة، وأعضاء آلية تُلصق بأجساد بشرية.

 

عمال بلا وجوه يتحركون في صمت، أصوات حديد يُطرق، وصراخ مكتوم يتردد في الفراغ.

 

ثم دخل المكان أشخاص لم يكن يفترض أن يظهروا:

 فريق المختبر نفسه.

كل واحد ظهر عاريًا أمام حقيقته:

 

“ناكادا”: هاكر مهووس، سجنه الحلم وسط أكواد مسروقة وجدران زنزانة صدئة.

 

“ناستو”: جنازة زوجها، الوجوه تتّهمها بالقتل، والهمسات تلاحقها كاللعنة.

 

“شيراتوري”: يطعن زوجته بحقنة معدنية رفيعة، يغرسها في عنقها ببطء، والدم يتصاعد مثل بخار ساخن.

كان الحلم أوضح من أي محضر تحقيق، لم يعد مجرد عرض… بل إدانة دامغة.

 

عندما ظهر سكين يوتا في الحلم، لم يكن الدم مجرد وهم… بل مختلط مع بيانات آلاف الحوادث السابقة المسجلة في قاعدة الذاكرة، فكانت كل قطرة دم على الأرض البيضاء تحمل رائحة الحديد وصرخات مكتومة من ذكريات الآخرين.

 

المرآة لم تعد مجرد زجاج… بل كانت نافذة لدماغه مشفّر بالأحداث الإنسانية، تتفاعل مع أعظم المخاوف المخبأة في اللاوعي، فتخرج يد من العمق لتقبض على عنقه، وكأن ملايين الذكريات نفسها تتسلل إلى جسده.

 

شيراتوري انهار، أوقف المشروع، أمر بمحو الملفات، لكن نسخة من الحلم تسللت إلى الإنترنت، العناوين اجتاحت الصحف:

 

“الأحلام تكشف الجرائم!”

“هل الدماغ شاهد ضد صاحبه؟”

 

الاعتقالات بدأت، التحقيقات اشتعلت، لكن الذروة جاءت بعد أيام:

 وُجد “شيراتوري” ميتًا في المستشفى، الأداة؟

 نفس الحقنة المعدنية التي ظهرت في حلم يوتا.

 نفس التفاصيل، نفس الرعب، دون أثر لقاتل.

 

منذ ذلك اليوم، لم يُرَ يوتا هيوشي مرة أخرى.

  هل هرب؟

 هل اختُطف؟

 أم صار هو نفسه مختبرًا متنقلًا؟

لكن الأكثر رعبًا جاء بعدها بشهور:

 رسائل ابتزاز وصلت إلى رجال الشرطة، تحوي مقاطع مصوّرة… من أحلامهم هم أنفسهم، مجهولون يهددون: “ادفعوا… أو ننشر أسراركم.”

التحقيقات توقفت فجأة، الأجهزة صمتت، لكن السؤال ظلّ يطرق كابوس كل عقل:

هل أحلامنا الآن مُراقبة؟  

وهل نحن نعيش يومًا ما في عالم تُصبح فيه الكوابيس سلاح ابتزاز… وحروب المستقبل تُدار داخل نومنا؟

 

 

الأسئلة بقيت تحوم كظلال سوداء:

 

كيف عرف عقل يوتا أسرار الآخرين؟

 

هل الأحلام ليست فردية كما نظن، بل شبكة متصلة يمكن التنصّت عليها؟

 

وهل تُستخدم هواتفنا الآن كأجهزة لبثّ أحلامنا إلى عيون لا نراها؟

 

 

ربما تبتسم ساخرًا وتقول: “محض خيال.”

لكن، قبل أن تنام الليلة… ضع هاتفك بعيدًا.

لأنك قد تستيقظ غدًا لتجد فيلمًا جديدًا على شاشتك… فيلمًا تعرف أنه لم يُصوَّر بكاميرا… بل صُوِّر من داخل دماغك.

 

نم الآن… إن استطعت، واحلام رقمية سعيدة ……

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!