ابداعات

نعم، الشر ينتصر …

 

شريف جلال القصاص 

 

انطفأت أنوار القاعة، وساد الصمت الثقيل بعد المشهد الأخير من فيلم Seven، ظلّ الصندوق المغلق حاضرًا في العيون أكثر من أي حوار، خرج علاء ومصطفى معًا، شقّا طريقهما وسط الزحام، ثم وجدا ملجأ في مقهى قريب، جلسا متقابلين، وعلى الطاولة بينهما كوب قهوة داكن وكأس عصير بارد.

 

علاء، وهو يضع يده على جبينه:  

يا أخي… كل هذه الرحلة، كل هذا العذاب، وفي النهاية الشر يربح! أهذا فن؟

مصطفى مبتسمًا بفتور:

 بل صورة للحياة الحقيقة بلا رتوش، الدراما عادةً تكذب لتريحنا، لكنها أحيانًا تفضح الحقيقة: الشر غالبًا أقوى، أكثر جرأة وإصرارًا، بينما الخير في العادة مترددًا، يجرّ أقدامه مثخنًا بجراح ألف معركة صغيرة للبقاء.

 

علاء محتجًا: لكن في النهاية الخير يجب أن ينتصر… هكذا اعتدنا، هكذا يقول المنطق.

 

مصطفى وهو يومئ برأسه:

 هذا ما ينبغي أن يكون، لا ما هو كائن، في الواقع، من يُقبض عليهم أقل بكثير ممن ينجون، آلاف القضايا كل عام تُقيد ضد مجهول، كم قاتل نام مطمئنًا على سريره؟ 

كم طاغية عاش مكرمًا؟

 أتعرف أن ستالين مات على سريره وحوله الحرس، بينما الملايين قضوا في معسكراته؟ 

هتلر نفسه كتب: “القوة وحدها هي الحقيقة، التاريخ لا يذكر إلا المنتصرين”.

 كان مقتنعًا أنه على حق حتى لحظة انتحاره.

 

ارتشف علاء من قهوته متجهمًا:  

يعني نحن نعيش في غابة، نجاتنا من السرقة أو القتل أو الظلم محض صدفة.

 

مصطفى متنهدًا:

 ليس تمامًا… لكن لاحظ، الغابة ليست مليئة فقط بالوحوش، بل بجماهير هائلة من الكائنات التي لا هي وحوش ضارية ولا كائنات أليفة مسالمة، معظم البشر رماديون، لا يملكون دافعًا عظيمًا للخير، ولا الجرأة الكاملة للشر، هؤلاء هم وقود اللعبة، يملأون المشهد بلا مواقف حاسمة.

 

علاء: إذن الشر يولد شريرًا، والخير هم سلالة فريدة؟

مصطفى: لا، هنا مكمن الخطر، أغلب الأشرار لم يولدوا كذلك، بل جُرحوا أو شعروا بظلم أو وجدوا مبررًا. 

 

لوكي لوتشيانو، زعيم المافيا، قال: “أنا لم أختر الإجرام، المجتمع هو من أغلق الأبواب في وجهي”. 

 

هكذا يتصالح مع نفسه، يقلب ضعفه قوة، يبدأ منبوذًا، ثم يُعتاد وجوده، ثم يُبهر الناس بسطوته؛ وفي النهاية يخصعون لسلطانه.

 

علاء: وكأن الأشرار بينهم خيطًا يجمعهم، بينما الخير متفرق دائمًا، وربما يخونه أقرب الناس، يتساقطون عن حمل قضية لم تكن أولوية حقيقية لهم. 

 

مصطفى: بالضبط، الأشرار يتكتلون في عصبة، بينما الخير غالبًا ما يخرج في صورة بطل وحيد، أو فريق هش، يتناقص مع الوقت تحت ضغط دعايا شيطنته المتقنه، بل أحيانًا مخترق بألف خائن يمهدون لسقوطه.

 

حتى أن ضمير الشر يتحور: بعد فترة لا يلومه على جرائمه، بل على تهاونه فيها، بينما ضمير الخير يُرهق حتى يغمض عينيه ويطلب السلامة.

 

سكت علاء قليلًا، ثم قال:

إذن القاعدة: الشر أقوى…

مصطفى وهو يميل للأمام:

في هذه الحياة فقط، ولحكمة.

علاء بدهشة: ماذا تقصد؟

 

مصطفى: تخيّل لو أن الخير له صوله وانتصر دائمًا هنا، لعرف الجميع النتيجة سلفًا، وضاع معنى الاختبار.

الامتحان الحقيقي هو أن ترى الشر يعلو ويتمدد، ثم تختار الخير رغم كل شيء، وهو من لا يقدر عليه فعله إلا من يملك قوة ذاتية يستمدها من الحق لا من المنتسبين له، أو حتمية انتصاره.

 

علاء ساخرًا:

 أي اختبار وهذا الدم؟

وهذا الظلم ؟

الدمار ؟

الجوع ؟

مصطفى بنبرة أعمق:  

اختبار أكبر مما تظن، الشر ليس المنتصر، بل المُمتحِن.

 هو الذي يكشف حقيقتك، 

ألم تر ابتسامة عمر المختار وهو يصعد المشنقة؟

 أو كلمات أبطال فلسطين:

 “يارب خذ من دمائنا وابنائنا حتى ترضي”؟ 

 

هو من يبالغ في سحقك لتسموا إلى الدرجة التي تستحقها.

يحرقك مثل قطعة تبر يزال خبثها وتصير ذهبًا.

يشق في جسدك أخاديد الصمود تذكار لا يمحى من سجل الحياة 

يشنقك لتعلو فوق منصة التكريم، لتحيا حياة تسموا على الخلود ذاته.

 

هذه ليست هزائم، بل علامات النجاح الكاملة وسط أوراق الأسئلة.

 

علاء بصوت خافت: إذن النهاية لم تُكتب بعد؟

مصطفى: النهاية الحقيقية لا تُعرض على شاشة السينما، ولا تُكتب في دفاتر الشرطة، ولا حتى في كتب التاريخ.

 

 ما نراه هنا مجرد مشهد من الامتحان، أما النتيجة… فهي هناك، في الحياة الأخرى، حيث يُفتح الدفتر كله ويُعلن الفارق الأبدي.

 

تبادل الاثنان نظرة صامتة، والشارع خلف الزجاج يموج بالبشر، رفع علاء عينيه وقال مترددًا:

إذا النصر أن تسلك طريق الخير تخطو فيه اول خطوة..

أن تعبر اشلائك على سجادته الحمراء المصبوغة من دمك.

تتأرجح جثتك على جسر الحياة.

 إذن… الشر ينتصر فعلًا.

ابتسم مصطفى ابتسامة عميقة:  

نعم، الشر قد ينتصر… لكن فقط في هذه الحياة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!