ابداعات

النرد الأخير  

 

شريف جلال القصاص

 

هل يمكن أن تكشف رمية نردٍ تافهة سرّ الوجود، تجلّي ما تعجز عنه عقولنا، وتفضح حدود وعينا؟ 

أم أننا نخدع أنفسنا حين نظن أن الأرقام تقرّبنا من الحقيقة؟

 

العلم في جوهره، طرقٌ في صحراء ممتدة: بعضها يقود إلى يقين يبدد الوهم، وبعضها يريحك لحظات ثم يتركك في التيه، وهناك أيضًا سراب يرهق المطاردين بلا جدوى، وآدم، طالب كلية التجارة، كان يرى أن “علم الاحتمالات” هو هذا السراب بعينه.

 

فالأرقام التي نزعم أنها تضبط الواقع، تنهار أحيانًا أمام وقائع تكسر منطقها، ففي عام 1972، تحطمت طائرة ركاب فوق جبال الأنديز، جزمت كل الحسابات إن احتمال نجاة أي إنسان من الصقيع والجوع معدوم، تقترب من الصفر، ومع ذلك خرج ستة عشر شخصًا من بين الركام بعد اثنين وسبعين يومًا أحياء. 

 

لم يكن الاحتمال هو الذي أنقذهم، بل إرادة تجاوزت منطق الحساب، وقدر لا تدركه الأرقام.

 

كان المدرج يغص بالطلاب حين دخل الدكتور، وضع حقيبته على الطاولة، وكتب بخط عريض على السبورة: “نظرية الاحتمالات”.

 

ابتسم وقال:

 ـ “الاحتمالات هي سلاحنا أمام المجهول، بها يحدد الطبيب نسب نجاح العملية، ويخطط الاقتصادي لمستقبل الأسواق، ويتنبأ عالم الأرصاد بالطقس، إنها أداة حين تعجز معرفتنا الكاملة.”

 

من المقاعد الوسطى، رفع آدم يده وقال بثقة:

 ـ “لكن أليس الاحتمال مجرد قياس لمدى جهلنا؟”

توقف الدكتور:

 ـ “وضح أكثر.”

قال آدم:

 ـ “خذ النرد مثلًا، تقولون إن لكل وجه فرصة متساوية، لكن النتيجة محسومة منذ لحظة خروج النرد من اليد، زاوية الرمي، سرعة الحركة، طبيعة السطح… كلها تحدد النتيجة يقينًا، نحن فقط نجهلها، فالاحتمال ليس كشفًا لقانون، بل توزيعًا لنِسب جهلنا.”

 

ساد همس في القاعة، فتدخل طالب آخر:

 ـ “لكن الأطباء يعتمدون الاحتمالات لإنقاذ الأرواح، أليس هذا علمًا؟”

 

أجاب آدم:

 ـ “هو نافع عمليًا، لكن فائدته لا تجعله علمًا في ذاته، هو أشبه بمصباح نستعين به في الظلام، المصباح لا يغير الطريق، بل يسمح لنا فقط أن نسير فيه رغم جهلنا بتفاصيله.”

 

من الصف الأمامي قال طالب ثالث:

 ـ “وماذا عن الأرصاد الجوية؟

 حين يخبروننا أن المطر سيهطل بنسبة 60%؟”

ابتسم آدم:

 ـ “بل هذا أوضح دليل، فالمطر إما سيهطل يقينًا أو لن يفعل يقينًا، الاحتمال لا يخبرنا بالغيب، بل يخبرنا أن أدواتنا قاصرة عن إدراكه، إنما اليقين عند الله وحده.”

 

التفت الدكتور مبتسمًا:

ـ “إذن ترى أن الاحتمالات ليست علمًا، بل قناعًا نغطي به جهلنا؟”

أجاب آدم:

 ـ “تمامًا، والجهل ليس عيبًا، لكن الوهم أن نصدق أن هذا الجهل هو الحقيقة نفسها.”

 

أخرج آدم نردًا من جيبه ورفعه أمام الجميع:

 ـ “سأريكم، سأرميه وأخبركم بالنتيجة قبل أن يستقر: ستكون ستة.”

ضحك بعض الطلاب، أطلق النرد بحركة دقيقة…

 ارتد مرتين ثم استقر: ثم أطل الوجه ذو الرقم ستة.

 

 ساد ذهول في القاعة، وتبادل الطلاب النظرات بين مصدق ومندهش.

ابتسم آدم:

ـ “لم أخدعكم، فقط تدربت حتى أتحكم في تحديد النتيجة.

 

الاحتمال لم يكن موجودًا، كان مجرد جهل لدى الآخرين. لكن لو شاء الله لغيّر النتيجة رغم كل حساباتي.”

اقترب من الدكتور وقال بهدوء:

 ـ “اليقين الحقيقي ليس في الأرقام، بل في أن كل شيء بقدر في علم الله، الذي إن أراد جعل المستحيل واقعًا، وحوّل أضعف احتمال إلى يقين لا مرد له.”

أطرق الدكتور لحظة ثم قال:

ـ “ربما أعظم ما في العلم… أن يعرف حدوده، ولا يدّعي ما ليس له.”

خرج الطلاب من القاعة يتجادلون: هل الاحتمال علم أم وهم؟ غير أن المفاجأة كانت في نهاية الفصل الدراسي: حين مرّ آدم أمام لوحة النتائج، وجد اسمه متصدرًا قائمة المتفوقين في مادة “الاحتمالات” نفسها.

ابتسم في داخله وقال: ـ “ربما… أعظم يقين، أن تؤمن أن الله القادر وحده، يجعل من الصفر احتمالًا يقينًا كالشمس.”

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!