ابداعات

“365 يوم”

 

لجين سامح

 

تبدأ الأعوام بعد عمر معين بالتوقف، ليس وكأن الزمن لا يمر..

بل يمر..

ويمر..

ويمر، لكنه لا يتغير 

 

الصباح والمساء كلاهما عجينة واحدة، تستيقظ لتنام..

وتنام لتستيقظ

 

ترى الجميع يمضون، وأنت واقف .. واقف في الجوار تأكل المقرمشات، وتشرب الشاي الصباحي 

 

اسمي “عمر” أو دعني أقول “الحاجّ عمر”، وقد قررت هذه المرة أن أكتب قصتي، علّ الأيام تمنُّ عليّ بما يوقظ المشاعر بي

 

أسكن في الطابق الأول، في عمارة في مصر القديمة، ليس لي ولد ولا زوجة، مهندس معماري متقاعد، وموسيقي في أحيان أخرى-كهواية- 

 

تجاوزت الخامسة والستين هذا العام، لكنني ما زلت أذهب للنادي وألعب التنس كل أحد وثلاثاء، لم أكون ثروة..

وأشعر بشكل ما أن حياتي مضت في اللاشيء، أستيقظ صباحًا..

لأطرق على البيانو بيدٍ جعّدها الزمن

 

وأقضي باقي اليوم بين النزهات، والقراءة، والجلوس في الشرفة، مع جملة “سلام عليكم حاج عمر”، كل خمس دقائق

 

ليس لي أصدقاء..

لكن لدي مكتبة

 

لا أملك أموالًا طائلة، لكنني قضيت شبابي في الترف

 

لا أنتظر شيئًا، لا أخاف من الموت، ولا أكره الشباب، ولا أضايق أحدًا..

 

الذي جعلني أفكر في الكتابة، كان الشاب الذي انتقل جديدًا إلى الشقة المجاورة، “عمر”، كانت الحياة تتقد في عينيه، طويل القامة، بعينين سوداويين، وملامح مصرية عجنها الطموح..

 

“ما حلمك يا عمر؟”

“أريد أن أرى العالم..” 

ضحكت، حين تسنى لي الحديث معه في شرفتي، بعد أن رآني اقرأ وطلب مني كتابًا..

 

حين دعوته للداخل وصنعت له قهوة، وأخرجت البوم الصور

 

” باريس ١٩٩٥”

“ميلانو ١٩٩٤”

“اسكتلندا ١٩٩٢”

“عمّان ١٩٩٠”

 

الصور تتناثر في كل اتجاه، شاب طويل القامة، عينين زرقاويين، وملامح تمتزج بالمحيط، وشعر ذهبي يميل إلى البني..

 

كنت أنا، وأنا أقبض على الحياة،

وكان عمر .. الآخر فاغرًا فاه

 

“احكي لي يا حاج عمر.. كيف ؟ “

“كيف ذهبت في جولة للعالم؟”

“لا.. بل كيف صرت وحدك..”

ابتسمت، كان مختلفًا بالتأكيد، مختلفًا للحد الذي لم يسأل عن حلمه..

 

بل سأل عن تداعيات الحلم، أيقظ العجوز بي

” كما ترى، كنت ذلك الشاب الذي لا يستطيع الجلوس.. وهذا ما لم ترضه امرأة”

” أبدًا؟”

” في الحقيقة.. كانت لدي زوجة، أنا أرمل..

سرقها الموت، ونحن في رحلة، كانت يونانية الأصل.. قصة طويلة دعك من الأمر”

“أرجوك.. أخبرني..”

 

وهكذا بدأت احكي الحكاية، عنك يا عزيزتي، عن ال ٣٦٥ يوم.. الذي اختتم بالفراق

 

عن لقاءنا عند نهر السين، وفراقنا عند متحف اللوڤر، عن هروب جسدك مني..

بين يدي..

وانتقالك إلى الحياة الآخرة

 

عن ابتسامتك، وعينيك.. وشعرك وصوتك، وغضبك..

“يا عمر.. ألم أقل لك أعد الصحون مكانها”

“يا عمر.. لقد تعبت من تلك الفوضى”

” من تلك الفتاة؟”

“متى الرحلة القادمة؟”

“أين معجون الأسنان؟”

 

كل تلك التفاصيل التي مكثت بذاكرتي، كل تلك اللحظات.. التي أكلتني لاحقًا

 

والوحدة المريعة التي سرقتني بعدك

 

” وكيف ماتت؟”

” سكتة قلبية..”

“لا أسباب؟”

“لا.. كما تعلم إنه القدر..”

 

لاحت في عيني دمعة مكتومة، لكنني ابتسمت في النهاية..

 

تطرقت إلى موضوع آخر، عرضت عليه بعض الكتب، ونصحته بأن لا يجعل العمل يأكل عمره..

وخبئتكِ إنت يا عزيزتي داخلي، داخل البوم الصور

 

“فرنسا أكتوبر ١٩٨٤”

-حفل الزفاف- 

” البرازيل ديسمبر ١٩٨٤”

“كوريا الجنوبية فبراير١٩٨٥”

“بريطانيا مايو ١٩٨٥”

“اليونان يوليو ١٩٨٥”

” السعودية أغسطس ١٩٨٥” 

“الكويت سبتمبر ١٩٨٥”

“فرنسا اكتوبر ١٩٨٥”

-نعي-

 

مر عمر على الصور، واحدة تلو الأخرى،

مر.. على الزفاف والجنازة، وما بينهما، الحجّ، التسلق، الركض، ولعب الجولف، الشواطئ، والشمس، والخريف، الربيع، والوحوش البرية..

وأنا وأنت..

 

والابتسامة، الضحكة، ودمعتي الأخيرة..

 

بكى عمر، وبكى الحاج عمر، واختتمت حديثي ” لم يدرك قلبي الحب سوى معها، لم أعش في الحياة سوى ٣٦٥ يومًا..

لكنني تعودت، أنت تعلم، لا أعلم لم عدنا من جديد لتلك النقطة..

لكن الوحدة مأساة يبني..

الوحدة هي الشيء الذي يجعل من الحب معجزة، إن استطعت أن تحب استطعت أن تعيش..

وإن لم تستطع، ذهبت حياتك سُدى”

 

ذهبت لغرفتي وأغلقت علي بعد أن رحل، وكتبت ما كتبت، بعد ثلاثون عامًا .. ما زلت أذكركِ عزيزتي.

 

وقدماي لم تزر فرنسا بعدها قطّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!