ابداعات

رومولوس وريموس

 

زينب عبد الحفيظ محمد 

 

أنت تقف على خط نهاية تعزف لحن الخلود، نهاية سيبدأ منها بناء صرح الوجود.

رُميتُ هذه الجملة في الأجواء من فمٍ مزموم، بعد أن لعق دماءً تشبه دماءه. رأيت ذلك بأمِّ عيني، رغم مكوثي في الظلام الراكد بسفح المياه، قاعِ نهرِ التيبر، نهرٍ غير قاسٍ على لحوم الصغار.

الفمُ ذاته الذي أرضعته لوبا ذئبةُ الضفاف، ظلامُ نفوس البشر أشدُّ عنفًا من ذعانف القروش الحادّة، فوُحوشُ المياه تبحث فقط عن طعامٍ يسدّ رمقها، لكنّ وحوشَ بني الإنسان يبحثون عن السلطة الدائمة والخلودِ لأسمائهم، يتسارعون على نقشها بجدار الزمان.

قبل سنواتٍ ليست قليلة، لم يكن سوايَ شاهدًا على نشأةِ الإخوة والحبّ، ولا يوجد غيري شاهدًا أيضًا على سفكِ الدماء وهدرِ قدسيّةِ القرابة. لم يكن ما شاهدتُه مجرّدَ وقعٍ عابرٍ بالتاريخ، بل كان أسطورةً خطّت ميلادَ مدينةٍ عظيمة، مدينةٌ رومانيةٌ تُقام فيها الممالك على طنين السيوف.

رومولوس وريموس.

نادتهم زوجةُ راعي الأغنام بعدما لقيتْهما. تلك المرأة التي ستذكرها التاريخ باسم أكا لارينتيا انعكفت على تربيتهما ورعايتهما حتى اشتدَّ عودهما، لم تكن تعلم أنها تُطعم أسطورتين خُلِّدتا بالتاريخ.

وُضعت أحجارًا مُدَنَّسة بالكراهية والغضب لتأسيس مدينةٍ مُغدقةٍ بالمجد والرفاهية الآن. فهل تولد القدوةُ من أقمشةٍ رديئةٍ سوداء؟ لكن خلف كلّ سفّاحٍ شيطانٌ مروَّض، وخلف كلِّ شيطانٍ متمرّدٍ نفسٌ شريرةٌ تدّعيه ليقترب بولَه. كهذا تقع الآثام، لتكون حجّةً على شدّة العذاب بقبور الموتى.

بليلةٍ نُثِرت فيها النجومُ بسماء روما، تطايرت الوساوس وتسرّبت من أعقاب الأبواب الثمينة، مُهمهِمةً باحتجاجٍ رافض: السلطة تهدّد وتتأرجح موازين العرش. هُمِسَت هذه الكلمات في أذن أموليوس، فهلعت روحه حين فهم ما ترمي إليه شياطينه، ففزّ قائمًا كمن لُدِغ بالسمّ، وأقام الدنيا رأسًا على عقب.

الإخوةُ لن يبنوا إمبراطوريةً مختصّةً له، كلاهما يعمل لتمكين سيادته. لن يقبل أموليوس بخفض رأسه والاكتفاء بحبّ أخيه والتقرّب منه.

أعلن الانقلاب على الملك نوميتور، وتمكّن من طرده من الحكم، وأُحيكت مؤامرةٌ ضدّه ونجح في خلعه، ثمّ تمطّى هو على خيول القيادة بحفاوة شروره.

لم تتوقّف شروره عند هذا الحدّ. أمر بقتل كلّ نسله، إلا ابنته؛ حُبست في معبد فيستا، وانضمّت عنوةً إلى صفوف الراهبات. الآلهةُ البشريّة لم تتمكّن من قمع غرائزها الدنيئة، فتسلّل مارس، إله الحرب، وزارها… ووقع كلاهما بالخطأ، فأنجبت سيلفيا توأمًا: رومولوس وريموس.

كان لغضب أموليوس فعلٌ غير رحيم، حين وضع الطفلين ملفوفين بأقمشةٍ رثّة في نهر التيبر.

رأيتُهما آنذاك وهما يبكيان بحرقةٍ، انتفضت الأسماك إثر صرخاتهما، وتجوّس التيارُ على حركتهما، وأخذ يزيحهما برفقٍ نحو الضفّة.

الشرّ يجري بالدماء، والعجائزُ الدمويّون يخلّفون وراءهم أبناءً أكثر دهاءً. غدوا شبابًا وفُتلت عضلاتُ أجسادهم، كَبِر الأخوان وكبر معهما الطموح، واستحالت الملامحُ البريئةُ إلى ملامحَ غاضبةٍ تُؤرّق كلَّ من ينظر إليها، وكأنهم يسخطون على الدنيا برمّتها.

وعند معرفتهما بحقيقة أصلهما، أجّجوا الأرضَ واشتعلت براكينُ الغضب، وتمكّنا من قتل أموليوس، وأعادا الحكمَ إلى جدّهما نوميتور.

ثم بعد استقرار الجدِّ على العرش مجددًا، قرّرا أن يُقيما مدينةً جديدة على ضفاف التيبر.

تَلَّة أفنتين أم تَلَّة بالاتين؟ كلاهما اختار تلّته بحماسٍ أغضب الآخر الذي رآها غير مناسبة.

وبين اعتراضٍ ناقمٍ وسخطٍ دائم، دلفت عرّافةٌ رومانيةٌ واقترحت أن يتفألوا بعلامات الطيور. كنت أراقبهم وهم يعدّون الطيور التي رأوها. اهتزّ سطحُ الماء عندما صاح رومولوس قائلًا: “لقد رأيتُ اثني عشر طيرًا!” وأردف بحماس: “لقد اختارتني الآلهة لأكون الملك!”

هدر ريموس: “أنت تغشّ! وهل تختار الآلهة أمثالك؟”

وقف بشموخٍ، وأخذ يخطو إلى أن تخطّى السورَ الذي بناه أخوه كإهانةٍ رمزية. أكاد أجزم أنني سمعتُ دماءَ رومولوس وهي تفور.

وفي لحظةِ غضبٍ لم يندم عليها، أمسك سيفَه وغرزه في ظهرِ أخيه المبهوت من فعلٍ لم يكن يومًا يخطر له أن يحدث. استدار ببطء حتى قابله، ونظر في عينيه المفزوعة، ودون كلمةٍ واحدةٍ خرَّ صريعًا.

نظر له رومولوس دون معالم، ثم نظر إليّ، لم يرَني… لكنه بنى أسواري وأخرجني من ظلمة القاع، ورَسَخ اسمي بعنوانٍ مزخرفٍ بالدماء: أنا روما، التي وُلدت من رحم الكراهية والظلم.

بين أحرفه نُقِش اسمي؛ فمن رومولوس خرجت روما.

رمى سيفه، ومسح دماءَ أخيه بملابسه، وقال: “هكذا يُقتل كلُّ من يعبر أسوارَ مدينتي.” ثم صرخ بالوجود قائلًا: “من دمِ أخي تُقامُ روما، ومن موته تُولد الحياة.”

مازالت مياه التيبر تشهد على بناء روما المنحدر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!