زينب عبد الحفيظ
ليلةٌ اسكتلندية باردة، تكاتف بها الغمام مُشكّلةً قُبّةً رمادية فوق سماء إدنبرة.
تارةً ترعد السماء فتصدع الأجواء، وتارةً تسكن كأنها تنصت لما يدور.
يتجول سقيع الرياح يمينًا ويسارًا، لافحًا الوجوه، بينما صوت حوافر الأحصنة يصطك بصلابة الطريق، محدثًا إيقاعًا موسيقيًا متوازيًا مع الأجواء.
تتقدّم عربةٌ خشبيةٌ فاخرة، زُيّنت بالستائر الحريرية ونُقشت على حوافها شارات القوة، تشقّ طريقها نحو قصرٍ أعظم، قصرٍ تهابه العيون، مطليّ بالقتامة.
في تلك السنة، 1440م، شهدت أوروبا حدثًا أوقف أنفاس كل من سمع به، ورغم أنّ هذه القارّة كانت تضجّ بشرورٍ وجنونٍ في تلك الحقبة، إلا أنّ هذا الحدث يُصنَّف كالأشد دناءة بينها.
تستهجن السماء رائحة الخيانة التي تراقصت في الأجواء… شيءٌ ما غامضٌ يحدث، شيءٌ مخيف.
اصطفّ “الوحوش” متخفّين في زيّ الحراس، ووقفوا بخضوعٍ مُطأطئين الأعناق استعدادًا لاستقبال ويليام وديفيد آل دوغلاس؛ فتيان لم يتجاوزا السادسة عشرة من أعوامهما، لكنّهما منحدران من أكبر العائلات قوةً ونُبلًا، بيدهما سلطة جبّارة تُخيف أوصياء الملوك، من يأججون نيران الدول من خلف ستائر منقوشة بالحكمة.
كانت عائلة دوغلاس في حوزتها الكثير من الأراضي والنفوذ، واضعةً يدها على مساحات شاسعة في كل بقعة من البلاد. لم يكن النبل مجرد لقب، بل كان فعلًا متأصلًا فيهم. كان يتبعهم عدد هائل من الجنود، شكلوا لهم جيشًا خاصًا. سعى دوغلاس لتكوين هالةٍ من الهيبة له ولأولاده لقرونٍ ممتدة.
لم يُقم اجتماع سياسي إلا وذُكر فيه اسم دوغلاس، ولا يُقام حفل إلا وترقبت الأعين ظهوره أو ظهور أحدٍ من ذريته، مما أدى إلى تسليط ضوء أحمر نحوهم، والانارات الحمراء كانت أكثر شرا من التهديد الصريح.
—
داخل القلعة الملكية دبّت الأضواء والأنغام، مائدةٌ أُعدّت بعناية فائقة، وُضع عليها أشهى اللحوم والخبز الدافئ، وتزيّنت بكؤوس خمرٍ براقة تحت ألسنة المشاعل.
ليلةٌ مقنّعة بالبهاء، لكن لا أحد يعلم ما يُخفى تحت أرضيةٍ مزدحمة بالثراء.
نُصِب كمينٌ لا تَقْطُر منه قطرةُ شكّ، واضطربت قلوب الأوصياء كلّما امتدّت قوة آل دوغلاس وتأصّلت في البقاع. رأوا في فتيان هذه العائلة تهديدًا صريحًا لسلطة الملك، وزعزعةً لهيبة العرش، فأرادوا إطفاء شرارةٍ أيقنوا أنّها ستغدو جحيمًا مستعرًا في وجوههم بالمستقبل.
حتى الملك الصغير نفسه بدا مُبهَمًا، لا يدري أنّ دعوة آل دوغلاس بحجّة التشريف والاحتفاء تخفي وراءها نوايا أُخرى.
ساد الضحك، واستقرّ كلٌّ إلى كرسيّه، ورُفعت الكؤوس، وغمر القصر هرجٌ وضجيج، والموائد تغصّ بالطعام الدسم.
جلس العشرات من الرجال على الطاولة الطويلة، جمعٌ يضمّ أكابر الأشراف… وآخرين منحدرين من بقاع الخبث.
كُلٌّ يُناظر كُلًّا بريبة، والعيون مترصّدة.
هناك حدث غير معلوم، ورائحة الغدر تطغى على روائح الطعام.
التوجّس أصبح سيّد الموقف، متربّعًا على وجوههم جميعًا.
—
وإذا على حين غرة، ومن بين أصوات الصخب، دوّى صوتُ ثورٍ هائجٍ فجأة، لصوته صدىً خلع قلوب السكارى واليقظين على السواء.
تلاه سكونٌ ثقيل، لم يُرَ شيء بعده، ولم يُسمع.
زاغت الأبصار، وتلاقت عينا الأخوين بريبة. أعلام الخطر قد شُرعت، والملك الصغير يُناظر أوصياءه بعدم فهم.
فجأةً تقدّمت أقدام الحراس المدرّعين، بجحافل الخوف، يحملون وعاءً كبيرًا مُغطى بقماشة سوداء.
كشفوه بغتةً عمّا تحته… فتشخّصت أبصار الجميع، وتفتحت الأفواه، وقرعت أبواق المصيبة.
إنه رأسٌ ملطّخ بالدماء، رأسُ ثورٍ نال من الخيانة حظًا وفيرًا، عيناه مفتوحتان تُحدّقان في السماء.
السماء كشّرت عن أنيابها بغضب، وألقت شظايا برقها، فضرب الرعد وتبعه انهمار المطر.
لكنّها لم تبكِ، بل حاولت غسل الذنوب… خطايا دنّست الأرض هنا.
—
علت الهمهمات، وتكاثرت الأسئلة التي لم يُسمع لها صوت، ثم توقفت، وغدا لا يُسمع إلا همساتٌ متشتّتة احتلّت الجمود أطراف الفتيان والملك الصغير.
تلعثمت النوايا برأس الصغار.
الكبار أشدّ شرًا وفتنة، والعجائز أسوأ البشر، قتلوا براءةً لم تشبها شوائب الحقد بعد.
الملك جيمس الثاني يراقب الصمت الثقيل الذي تلفّحت به القاعة، وقد فهم الحاضرون الرسالة قبل أن تنطق.
وقف ويليام بهلع، وقد تلطّخت الموائد بدماء الثور، فأمسك بيد أخيه خوفًا، وقد أيقن أنّ الموت آتٍ لهما، صرخ بالوجوه بغضب، ومع ذلك ترتعشان يداه، وامتلأ وجهه بالعرق، وتخبطت أسنانه من رهبة الواقعة.
فهذا الإعلان نذير شؤم، فرأسُ الثور المنحورة لا يتبعها إلا الخيانة… والخيانة لا يتبعه إلا الموت.
—
لم يكونوا على علمٍ أنّ داخل هذه القلعة قد حُفرت مقابرهم.
جُرّوا إلى ساحتها مُكبّلين، وأُرغم الملك الكاره لما يحدث على مراقبة رداءات النفوس، وهي تنتزع الأرواح دون رحمة، بأنصال خناجر مسمومة.
ومع إطلاق إشارة الخلاص، هربت غربان الأسوار التي كانت تترقب وقوع الحدث، ودوى صراخ الملك الصغير معترضًا.
—
عرسٌ أسود، نُقشت أحداثه على جدران الخسّة، واتُّخذ مثالًا داميًا على الغِلّ وإهانة البراءة.
قصةٌ ينفر التاريخ من تلاوتها، لكنها بقيت متصدّرة أمثلة سوء البشر، شاهدةً أنّ السلطة تُضلّل حدود الإثم، وترفع شياطين الإنس إلى قمم الهلاك.