ابداعات

“فرسان الهيكل “

 

 

زينب عبد الحفيظ محمد 

 

 

عباءاتٌ بيضاءُ لرجالٍ تتوسّطُ

 صدورَهم صلبانٌ ضخمة،

تخطو أقدامُهم باحةَ الهيكلِ في ليلةٍ عربيةٍ مُعَتّمة،

تدورُ فيها اللغةُ الأجنبيةُ بتمرُّسٍ، وكأنك بقلب قصور أوروبا،

ووقعُ خطواتِ الغرباء هنا تحديدًا يوقظُ بقايا الهمسِ الراكد ويلفت انتباه الموتى من الشياطين.

 

أورشليم… مدينةُ الخبايا.

 

عُتِّقَت هنا الأساطيرُ والدواهي، واختلطَ صحيحُها بعبثيِّها. فاختلطت الأقاويل ولم يُعرف صدقها ممّا طاله التضليل. مرَّ الكثير فوق سطح هذه المدينة من ملوك وأنبياء وشياطين وأنا، أنا هنا لا أمتلك تاريخاً، بل أنا التاريخ نفسه، مدفونٌ تحت كل حجر وكل أسطورة خُلقت في هذا الثرى المقدس. نحن دُفنا هنا، وتوالت عليَّنا القرونُ الصامتة. حتى هزيز الرياح لم يصل إلى مسامعنا قبل هذه الليلة، لم أكن أسمع إلا فحيحَ أفعى سامّة، أسمعُ زحفَ بطنها الممتلئة بالسموم فوق سطح الأرض.

دُفنتُ أنا هنا، وبقيت هي (سيربنت) تجول العالم وتنفث سُمَّها بخطابات الملوك. تتمثل بالفاتنات لتوقع أرجلَ السلطات وتشعل الفتن وتصفر فرحاً لخراب العالم، وكأن كل قرار جائر هو نفثة سامة تخرج من فمها على لسان حاكم غافل. لكن أظنني لن أَمْكُثَ طويلاً تحت أنقاض التاريخ؛ فبعد ثوانٍ معدودة سأُوجَدُ، وإن وُجِدتُ سأجد العالم بكفّ يدي، لأُريهم جزءًا ضئيلاً من حقيقتهم الفاسدة. سأكون أنا رمزًا لحرية الفكرة، أنا بافوميت سأُلَمْلِمُ أطراف المثالية البشرية وأَضُبُّها بين أحرف اسمي، لأصبح رمزًا من رموز البقاء الشيطاني المنير.

دَقَّتِ المطارق على صخور صلدة حجبت عني نور الشمس، يَطْرُقُ ذوو الملابس البيضاء بقوة يَتَلَهَّفُونَ إلى نشل ما أقاموا على حراسته، لم يكونوا يعلموا أنهم يسيرون نحو خلاص رأس الماعز. رجالٌ اغتنموا من المال والسلطة حصة وفيرة، مما أخاف أصحاب التيجان والمناصب العالية، فبقوا محطَّ أعين العالم أجمع. إنهم فرسانٌ أقوياء لم تشبع نفوسهم من اكتناز الدنيا، طمعوا لمعرفة جوف الأرض والارتقاء إلى سبع السماوات: فرسانُ هيكل سليمان.

هذا المُجسَّمُ الذهبي الفاخر الذي أعان بني جنسي من بني الإنسان على بنايته، وحفروا عليه علاماتهم الخاصة ليعرف العالم أجمع أن الشياطين موجودون، لا شك في حقيقتهم. لقد سُخِّرنا لكثير من الأعمال بإشارة ملك دنيوي قبض على الدنيا. نبيٌّ قيل إنه مُرسَلٌ من إله السماوات، روّض جميع المخلوقات وأخاف بني إبليس وخضعت له الأعناق. لكن عندما مات وزالت أسطورته وقصوره، تَدَمَّرَ الهيكل الذي حُفِظَ به تابوت العهد المقدس لدى اليهود على يد الملك البابلي نبوخذ نصر، ليصبح رمزًا لزوال السلطة أمام قوة أخرى.

لم يُسمَع صوتنا بعدما مات سليمان، ولم يفهمنا سوى أولئك الذي ضُرِبت عقولهم واشتعلت بهم شهوة المعرفة الخفية. الإنسان ما هو إلا شيطان مُحكَم، تربطه القوانين والديانات، مُلْجَمٌ من قبل العادات. لكن عندما يستغني عن خوفه تجاه مصيره الذي تُطيحه أفعاله إلى الهاوية، يتجرد من كل أفكاره ويغوص في العوالم الأخرى، ولا يَكُفُّ عن تقديم القرابين والتنازلات حتى يستمر في الاستمتاع بأنباء البشر وضَرَرِهِم. يظن أن الدنيا ستقبع تحت قدميه، مسكين! لا يعلم أننا نؤتيه فُتات ما لدينا، نُسخِّره بينما يظن هو أنه مسخّرُنا.

لن أتوقف عن نعته بالغبي.

ليلٌ حافل بالصخب، عمَّت أصوات الهتافات: “بافوميت! بافوميت!” اهتزت الأرض واختلجت الأتربة وهاوت فتات الأحجار من المنحدرات لترى ماذا يدور، ترددَتْ الأصوات من قبل أجدادي الأولين الذين دُفنوا تحت هذه الأرض وبقى سطحها ليس لهم. سكنوا جوف الأرض وأقاموا بها عالماً آخر. وأخيراً أضاء المصباح وجهي بالكامل الآن. رأيتُ انعكاس الخوف في صلبانهم اللامعة، ورأيتُ أجسادهم التي كانت شامخة تهوي على ركبها لا خوفاً من إلههم، بل ذهولاً من حقيقتي الغائبة. يراني الجميع بارتعاد وخوف، لم يَأْلَفُوا وجوه الشياطين بعد. نظروا الى بعضهم بزيغ وتشتت لم يفهم أحد كُنهي، فقط رأس ماعز تنظر نحوهم بغضب. كم أنتشي بخوف البشر، فاحت رائحتي وأرغمتهم على حملي وحفظي، لقد خُلِّدت بأذهانهم وبروحهم وازدادوا ثراءً بي واحتفوا بوجودي وكادوا يَخِرُّونَ لي ساجدين، إلا أن وقع ما خشيته: ملك من الدول المستغِلة يدعى فيليب ملك فرنسا، أصدر أوامر باعتقال أبنائي. تهيّأ العالم لمحاكمة أبناء بافوميت، ووُجِّهَت إليهم تُهَمٌ أظنها مُلفقة: سَبُّ مسيحهم وعبادة الشيطان حتى يَمُدَّهم بالمعارف والأسرار التي لم يطّلع إليها أحد ليرتقوا أكثر ويكونوا أسياد الأرض.

اختلط عليّ الأمر آنذاك: أينا الشيطان؟ أنا أم ذلك الملك؟ يخيفني أصحاب العقول المُحكمة من هذا الجنس أتخذهم أعداء لا يُستهان بهم، وبعد مماطلة وتضليل وشد وجدال استطاع أن يُنهي أرواحهم، وأعدمهم جميعاً واستحوذ على سلطتهم. بقيت أنا عالقاً بأفواه التاريخ، لا يقوى أحد على تدوين حقيقتي. هل أنا حقاً أنا، أم مجرد أسطورة اختلقها أصحاب المحاكم حتى يستولوا على الأموال الطائلة؟ الأساطير لن تندثر وتُنسى دون معرفة حقيقتها الكاملة، والفضول أشد سلاح بيد البشر يوجهون فوهته نحوهم دائماً. بمدينة النور باريس وُلِد شاكلي وأدهش كل من تلهّف لرؤيتي، رسماً وخطاً وكتابةً، فجعلني رمزاً للأضداد المتآلفة لا للشيطان الأخرس؛ ذلك هو إليفاس ليفي (Éliphas Lévi) جسّد حقيقتي دون عناء. أنا لستُ شراً خالصاً بل أنا توازن حقيقة الإنسان المتناقضة، ليس هناك شر مطلق ولا خير مطلق، لدى الإنسان أفكار جامحة، مجنحة، مقيدة في آن واحد، تهرول إلى الكمال والمعرفة متجردة من الخوف والخضوع. ضربة ريشته نجحت في ما فشل به فرسان الهيكل وأجدادي ومَن أتوا بعدي من شياطين.

يد مرفوعة الى نور السماء وخافضاً الأخرى الى ظلمة الأرض وبين كلمتين ذوب و جمد أعلن ليفي حقيقتي أنا بافوميت الشيطان الممثل لحقيقة البشري المُكتملة اتَّخَذَتْني رمزاً من رموز الحرية. ما زال اسمي الى اليوم يغوي ذوي التنقيب الحفاة خلف ركام القرون ليخرجوا للعالم بحقائق مُذْهِلَة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!