ابداعات

علمٌ بلا طالب

بقلم: ضياء علي الدعاس 

 

 

في عصرٍ أصبح فيه العالم كتابًا مفتوحًا، والمعرفة أقرب إلى الإنسان من أنفاسه، يبدو أن أكثر ما نفتقده اليوم هو الرغبة في أن نعرف.

صار بإمكانك أن تتعلم أي شيء، في أي لحظة، من أي مكان؛مئات الكتب، آلاف المحاضرات، ملايين الدروس، نقرة واحدة تكفي لتفتح لك أبواب الفكر والعلم والثقافة…ومع ذلك، لا يزال الجهل يملأ القلوب، والسذاجة تتربع على عرش العقول.

 

لسنا بحاجة اليوم إلى من يعلمنا كيف نصل إلى المعرفة…فهي بين أيدينا،بل نحن بحاجة إلى أن نتساءل لماذا لم نعد نرغب في أن نعرف!؟ لماذا أصبح الحلم الأكبر عند الكثيرين هو المال، الشهرة، المظاهر، بينما طموح الفكر تراجع إلى الصفوف الأخيرة؟

وكأنما أراد الشاعر أحمد شوقي أن يذكّرنا بحقيقة غابت عن الكثير، فقال:

 

العِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لا عِمَادَ لَهُ

وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ الْعِزِّ وَالْكَرَمِ

 

لو نظرت حولك لرأيت المشهد المؤلم نفسه يتكرر حفلات زفاف صاخبة، صخب يملأ الفضاء…سباق محموم نحو كل ما هو فارغ وسخيف، فيما ينزوي أصحاب الأحلام العظيمة في زوايا الصمت، تغمرهم الحسرة على زمن كانت فيه المعرفة أمل الإنسان الأول.

 

تأمل أي حديث يدور اليوم بين الشباب، واسألهم ما الذي تتمنى أن تحققه؟ لن تسمع غالبًا سوى أمنيات تتعلق بالمال، السيارات الفارهة، عدد المتابعين على وسائل التواصل…قليل جدا من سيقول أريد أن أتعلم، أريد أن أفهم، أريد أن أترك أثرًا يبقى بعدي.

 

وقد لا يدرك كثيرون أن أجدادهم، منذ قرون، كانوا يتكبدون المشاق ليحصلوا العلم؛يسافرون المسافات الطويلة، ينسخون الكتب بأيديهم، يسهرون الليالي على ضوء قنديل خافت؛يكفي أن نذكر قصة ابن سينا، الذي لم يرث علمًا سهلًا ولا معارف مبذولة، بل قضى صباه متنقلًا بين البلاد والكتب، يسأل العلماء ويدون بيده ما يسمع وما يقرأ، حتى إذا أظلم الليل وهدأت الأنفاس من حوله، أوقد سراجًا وراح يسهر الساعات الطوال يقرأ ويفكر…هذا هو ابن سينا الذي كتب في الطب والفلسفة والمنطق، وترك لنا إرثًا لا يزال العالم يدرسه حتى اليوم ؛لا لأنه وُلد عبقريًا فقط، بل لأنه تعب واجتهد وسعى، ووهب نفسه للعلم عن إيمان وشغف صادق.

 

أما اليوم، فقد فتحت الدنيا خزائنها المعرفية لنا، ولكن ضاقت الهمم وضعفت العزائم.

 

وقد سمعت يومًا أبياتًا أعجبتني، تردد هذه المعاني بكل وضوح وصدق، تقول:

 

تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُولَدُ عَالِمًا

وَلَيْسَ أَخُو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ

وَإِنَّ كَبِيرَ الْقَوْمِ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ

صَغِيرٌ إِذَا الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْجَحَافِلُ

وَإِنَّ صَغِيرَ الْقَوْمِ إِنْ كَانَ عَالِمًا

كَبِيرٌ إِذَا رُدَّتْ إِلَيْهِ الْمَحَافِلُ

 

نُسبت هذه الأبيات إلى الإمام الشافعي ، وإن كان هناك من ينسبها إلى غيره، إلا أنها في كل الأحوال تحمل من الحكمة ما لا يخفى على عاقل.

 

المشكلة ليست في قلة الفرص، بل في وفرتها حتى التُّخمة؛ صارت الوفرة نفسها لعنة، لا تعلم الإنسان إلا الكسل والتشتت والفرار من كل ما هو عميق…كأن سهولة الوصول جعلتنا نحتقر ما بين أيدينا، فاخترنا اللهو السطحي على حساب الجد، والصخب الفارغ بدلًا من صوت العقل.

 

أيعقل أن يزداد الإنسان جهلًا كلما ازدادت حوله سُبل العلم؟

أيعقل أن ينحدر وهو في ذروة التقدم؟

أم أن المشكلة في القلب قبل أن تكون في الوسيلة؟فما الحل إذن؟

 

الحل يبدأ من الداخل، من قرار شخصي أن يكون للمرء موقف تجاه هذا الفيض الجارف من التَّفاهة… أن يقف لحظة ويسأل نفسه ماذا أستهلك يوميًا؟ ماذا أقرأ؟ ماذا أسمع؟ أي الأبواب أطرق؟

 

الوعي هو البداية، والاختيار هو السلاح…أن تختار أن تكون حاضر القلب والعقل، لا مجرد رقم آخر في قائمة المشاهدين والعابرين…أن تجعل من وقتك نصيبًا لما ينفعك، ساعة واحدة فقط كل يوم تقرأ فيها، تتعلم، تسمع ما يزيدك حكمة؛أن تدرك أن المال وسيلة، لا غاية؛ أن تعرف أن الشهرة قد تُنسى، لكن الأثر الطيب في العقول والقلوب هو الذي يبقى.

 

وهنا تحضر كلمات الشيخ محمد راتب النابلسي، كأجمل ما يُختم به هذا الحديث:

إذا أردتَ الدنيا فعليكَ بالعلم، وإذا أردتَ الآخرةَ فعليكَ بالعلم، وإذا أردتهما معًا فعليكَ بالعلم.

والعِلمُ لا يُعطيكَ بعضَهُ إلّا إذا أعطيتَهُ كُلَّكَ.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!