✍الدكتور عادل اليماني
سَأَلَ المُريدُ شيخَه ، فقالَ :
كيفَ تبرُدُ نارُ النَّفسِ ؟
قالَ : بالاستغناءِ ، استَغْنِ يا ولدي ، فمَنْ تركَ ملَكَ ..
إِنَّ الغَنِيَّ حَقاً ، هو مَن اِستَغنى عَنِ الناسِ . والناسُ صِدقاً ، ليسوا بحاجةٍ لزيادةِ ثرواتِهم ، بقَدرِ حاجتِهم لخفضِ احتياجاتِهم ، فالاستغناءُ عن الشئِ كامتلاكِه ، قيلَ للعلامةِ إبراهيمَ بنِ أدهم : إنَّ اللّحمَ قد غَلاَ ، فقال : أرخِصوه ، أي لا تشتروه ، وأنشدَ في ذلكَ :
إذا غَلَا شئٌ عليَّ تركتُهُ ..
فيكونُ أرخَصَ ما يكونُ مهما غَلَا ..
أيُها الإنسانُ ، ما خلقَه اللهُ وكرمَك ، لتُعذِبَ نفسَك ، بالزحفِ والهرولةِ ، نحوَ رغباتِها . أنتَ حُرٌ ، أنتَ سَيدٌ ، أنتَ بُنيانُ اللهِ ، لو تجاهلَك الناسُ ، ابتعدْ ، واستغنِ ، لو تعالي عليكَ أحدُهم ، ابتعدْ ، واستغنِ ، لو استشعرتَ أنَّك أسيرٌ لشيٍ ، ضعيفٌ أمامَه ، ابتعدْ ، واستغنِ ، لو ضاقتْ عليكَ الدُنيا نفسُها ، بما رحُبتْ ، ابتعدْ ، واستغنِ ، عندها ستكونُ أقوي الناسِ ، فالاستغناء عن الناسِ قوةٌ ، بخلافِ الاستغناءِ عن اللهِ تعالي ، فهو قمةُ الهَوانِ والمهانةِ والمَذلةِ ، قالَ أحدُ الصالحين : مَنْ استغنى باللهِ ، افتقرَ الناسُ إليه .
قالَ المُعلمُ الأولُ ( ص ) : أتاني جبريلُ عليه السَّلامُ ، فقالَ : يا محمَّدُ ! عِشْ ما شئتَ ، فإنَّك ميِّتٌ ، وأحبِبْ مَنْ شئتَ ، فإنَّك مُفارقُه ، واعمَلْ ما شئتَ ، فإنَّك مجزِيٌّ به ، ثمَّ قال : يا محمَّدُ ! شرفُ المؤمنِ قيامُه باللَّيلِ ، وعِزُّه استغناؤُه عن النَّاسِ ..
إنَّ كُلَّ شئٍ في هذا الكونِ الفسيحِ ، يقبلُ الاستغناءَ ، إلا الاستغناءَ عن اللهِ تعالي ، لأنَّنا بدونِه ، جلتْ قدرتُه ، ضائعون ، مُعدمون ، فقراءُ مادياً ونفسياً ومعنوياً : أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ..
الصالحون دوماً في مَعيةِ ربِهم ، قوتُهم مستمدةٌ منه ، لا يستطيعون البُعدَ عنه ، ولو قليلاً ، فما بالُكم ، بفكرةِ الاستغناءِ نفسِها !
وبدايةُ هلاكِ الإنسانِ ، لما تُسولُ له نفسُه المريضةُ ، أنه أصبحَ كبيراً وعظيماً ، بنفسِه ! دونَ الحاجةِ لغَيرِه ، أياً كانَ هذا الغَيرُ : كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى .. وفي المقابلِ : ومن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ ..
اللهُ وحدَه ، دونَ غيرِه ، هو الغَنِيُّ الحَمِيدُ ، هو فقط ، صاحبُ القُدرةِ المُطلقةِ ، علي الاستغناءِ : وَاسْتَغْنَى اللَّهُ ، أي : واستَغنى اللهُ عنهم ، وعن إيمانِهم ، به وبرُسُلِه ، فليسَ له حاجةٌ إليهم ، ولا يُبالي بهم ، ولا يَضُرُّه ، سُبحانَه ، كُفرُهم !
وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ .. أي : واللهُ غنيٌّ عن جميعِ خَلْقِه ، وغيرُ مُحتاجٍ إليهم ، ولا إلى عِبادتِهم ، وهو المحمودُ في أقوالِه وأفعالِه وأوصافِه ، المحمودُ مِن كلِّ مخلوقاتِه ، بلِسانِ الحالِ والمقالِ ، فله الحَمدُ الكاملُ التامُ .
مَنْ ﺍﻋﺘﻤﺪَ ﻋﻠﻰ الناسِ ، ﺫﻝَّ
ﻭ مَنْ ﺍﻋﺘﻤﺪَ ﻋﻠﻰ مالِه ، ﻗﻞَّ
ﻭ مَنْ ﺍﻋﺘﻤﺪَ ﻋﻠﻰ علمِه ، ﺿﻞَّ
ﻭ مَنْ ﺍﻋﺘﻤﺪَ ﻋﻠﻰ نفسِه ، ﻣﻞَّ
ﻭ مَنْ ﺍﻋﺘﻤﺪَ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪِ ، فما ﺫﻝَّ
ﻭﻻ ﻗﻞَّ ﻭﻻ ﺿﻞَّ ﻭﻻ ﻣﻞَّ .
كُنْ مع اللهِ ، وحدَه ، ولا تُبالي ، وأمددْ إليه يدَك في ظُلماتِ اللياليِّ .
واستَغْنِ باللهِ عَن دُنيا المُلوكِ
كَما اِستَغنى المُلوكُ بِدُنياهُم عَن الديِنِ ..
هي الحقيقةُ الراسخةُ علي الدوامِ : وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ..