زينب عبد الحفيظ
بزمانٍ ولى منذ حقب، دُهست القرون وتناسَتها العقود.
فُرّط في النشوات وتبددت عقائد الرجال، واختلط الأمر، وتدلست الحكايا.
كان الغضب ينفث من جميع الجيوب، وتُدافع الحرمات عن نهجها.
يُرمى الباطل بالجميع على الجميع.
انقسم البشر إلى أحزاب، ولكل حزب تفكير وطقوس.
ورغم وقوع المعجزات، أُشِيحت الأيادي بعدم اكتراث، وتمتمت الأفواه أن ما جرى أسحار وأساطير رُويت.
فلا مجال للمفاجآت.
نال السواد وتصقّل بالقلوب، وغدت كل المشاعر مشكوكًا في أمرها…
إلا شعور واحد: الحب، ورغم إنكاره من الجميع، ظل راكدًا في القلوب.
وُقع في الحب — وهل تقع القلوب كما تقع الأجساد؟ — بامرأة نُقش على ملامحها الدلال.
كانت من ذرية كافرٍ بالأديان برمتها، ولم يُلق لذلك بال.
اقتُرب من فرط أنوثتها، ونُفث في خلدها كلام أشد سحرًا من سحر سحرة بابل.
ضُرب بالأصول والعادات والمجتمع المتقسم عرض الحائط.
كانت تُرى حنونة رغم قسوة زمانها، هادئة رغم صفير رياح الصحراء.
دافئة الأحضان، ناعمة رغم غلاظة عقول المحيطين بها.
فُتن بأهداب تلمس كأسنة الخناجر، وبخصر يتمايل مثل أغصان الورود.
ورغم تدليس الصحف، قُرئت، وجال النظر عليها من رأسها لأغمص قدميها، ودُرست.
وعُرف أن الأديان فقط تُرشد ولا تُعيد إنشاء إنسان.
الأديان تُشير للإنسان على ما فيه، لا تضع قيمًا غير موجودة.
ظلت على فطرتها، لم تطلها شوائب الفتن، ممتلئة بالبراءة، تحمل في داخلها حنية نافرة، وتترقرق عيناها إن تألم حيوان.
أُتقنت الحشمة، وكان الخجل فيها غير موروث.
بقيت فتاة لم تطلها عفن مخالب فجور قومها.
وُقع بها… بل تعثّر مرغَمًا، وهل يُخضع العقل لما يضربه القلب من دفف التمرد؟
كيف يُعشق في زمان كُفر فيه بالعشق ودُفنت المشاعر في مقابر متحجرة؟
كُتبت فيها الأشعار، وترسخت هيئتها في الذاكرة.
كلما أُغمض الجفن، أتت صورتها، ثم انطلق عقله يسكب صخب الضحكات من الحب والزمن الذي وُلد فيه.
سُخِر من الجرأة الخائبة الزائفة: كيف سيصمد هذا الحب أمام غضب الجاهلين؟
عُزمت الأمور رغم اختلاطها، وهُيئت النفس لمعركة الخسارةُ فيها قلبٌ متعجرف يأبى ويُنكر الهزيمة.
سِيق الجسد نحو الهلاك، وتدافعت الرمال خلفه.
خَفّ الصفير، وهدأت الأجواء، وكل شيء سكن… إلا الدماء الهائجة.
وُقف على أرض، في باطنها شياطين، وعلى ظهرها شياطين ألعن.
تُنازع الحقيقة وتُربك بحدة كلماتها، وتدندن كجنية بداخل بئر مسكون:
“كفاك جنونًا”.
كل شيء يقف ضده الآن… الدين، والعقائد، ورمال الصحراء، وحتى العقل.
كيف تُنتزع جوهرة من فوهة بركان متسعر؟
ومع ذلك، فُعلت، إذ انطوت المسافات، وأُدير ظهر الجبن، وتُحدث… ثم تهدجت الكلمات، فاحتدت، وأخيرًا انطلقت الصرخة بانفعال هادر.
تَزوم النفس معارضةً رفضَ المجتمع والجامع، ورفض الجميع لما يُكنّ الغمد.
فكيف يسير النور في ظلام دامس دون أن تُبارزه وحوش الظلام؟
وكيف يصمد الوعي أمام حفنة جاهلة؟