ابداعات

..الرواية الصماء

 

✍️بقلم / انتصار عمار 

 

 

سنوات ليست بقصيرة، ولا بعيدة، لازلت أتذكرها، وأتذكر تحديدًا المسرح الذي أُقيم على أرضها.

 

 

والذي كان يضم نخبة وكوكبة رائعة من النجوم الذين برعوا في تجسيد أدوارهم.

 

 

كنت طفلًا صغيرًا، لا أعي ماذا تعني كلمة”مسرح”، ومن هو الممثل؟ وكيف يؤدي دوره؟

 

 

كنت أشاهدهم وألقاهم عبر صدى حكايات أمي، يبيتون بفكري كل ليلة، أسمع أصواتهم، أرى تعبيراتهم.

 

 

أتخيل ملامح وجوههم، أعيش وعالمهم الذي بنيته بفكري، وسكنته بخيالي.

 

 

وكبرت شيئًا فشيئًا، وأصبح الخيال حقيقة، وبعد أن كنت أنا المشاهد والمتفرج.

 

 

 أصبحت واحدًا من هؤلاء النجوم، الذين يعتلون خشبة المسرح، ويصفق لهم الحضور من الجمهور.

 

 

ربما كنت يومًا ما كومبارس، وآخرًا كنت أنا من يُدير الحوار، ويلعب دور البطولة.

 

 

قد يكون آلمني أن ألعب دور “الكومبارس،” وأن يُكتفى بأدائي الصامت، وكأني “روبورت،”ينفذ ما يملي عليه من تعليمات، ولكن في صمت.

 

 

وعندما أًسند إلىَّ دور البطولة، ولأول وهلة انتابني شئ من الخوف، والقلق، وحاصرت خاصرة رأسي الأفكار، 

 والتساؤلات.

 

 

 تُرى ما هي الرواية التي سألعب دور البطولة فيها، وأكون فيها البطل؟

 

 

وما هو مضمون قصتها؟ وعن أي شئ تحكي؟ تًرى هل ستكون ممتعة؛ هل ستروق لي؟ ونهايتها سعيدة؟ أم حزينة تًدمي القلوب؟

 

 

ورغم كل هذه المخاوف، إلا أنني هرولت مسرعة لأقرأ سيناريو تلك الرواية.

 

تبدو شيقة للوهلة الأولى، تجذب القارئ من أولى سطورها، كانت بمثابة نافذة كبيرة تطل على بحر كبير عميق.

 

 

زرقاء مياهه، حلوة سماؤه، متلاطمة أمواجه، يفوح منه عطر الحياة.

 

 

وظللت أسبح، وأتنقل بين شطآنه، تارة أطفو، وتارة يحاول الموج إغراقي، إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة.

 

 

 والتي سأجسد فيها دوري بالرواية، وأعتلي ولأول مرة خشبة المسرح.

 

 

وإذ بي أقف متوترة، متخبطة القدمين، حائرة الخُطى، يعتريني الخوف من مواجهة الجمهور، والدمع يترقرق  بعيني خشية أن يصافح وجنتي.

 

 

لكني حاولت التغلب على كل مخاوفي هذه ، وعمدت لإثبات موهبتي، وبالفعل بدأت أندمج في تجسيد دور الشخصية.

 

 

حالمة، جميلة، رقيقة، نقية، عاطفية، ذات قلب ملائكي، تلك هي إحدي الصفات المميزة لبطلة الرواية.

 

 

كم أحببت تلك الشخصية، أحسستها أنا، فهي تشبهني بكل تفاصيلي، لذا برعت في تجسيد الدور، وبمهارة فائقة.

 

 

وما أحسست أني على خشبة المسرح إلا حينما عانقت أذناي تصفيق الجمهور.

 

 

وانتهى المشهد الأول من المسرحية، والذي كان يعرض مرحلة طفولة هذه الفتاة.

 

 

وحان وقت المشهد الثاني، والذي يتناول رحلة هذه الفتاة مع الأقدار، وكم كانت شاقة، مؤلمة.

 

 

 مفروش دربها بالدموع التي لا تجف، كذلك صفعات الحياة التي تتناوبها تباعًا.

 

 

وللمرة الثانية اعتليت خشبة المسرح، ولكن هذه المرة لم يسكنني الخوف من لقاء الجمهور، فقط كنت أسمع صوت أنفاسي وهي تئن.

 

 

ولا أرى سوى عيناي، وهي تذرف أدمعًا، وأوتار قلبي التي تحتضن دمعاتي، وتربت على كتفي، لتهون علي كل ما أمر به.

 

 

وبدأت أعيش قصتي على خشبة المسرح، وأزلزل أرجاءه بهول أحداثها، وإذ بي أنهار في البكاء.

 

 

لدرجة أن الجمهور ظن أنني قد اندمجت فى الدور، ولا يعي أنني بالفعل أحيا ومسرح حياتي.

 

 

انهال تصفيق الجمهور، وتعالت أصوات تعليقاتهم الحسنة، وإشادتهم بأدائي، كنت أسمعهم.

 

 

لكني مازلت أحيا ودوري في الحياة، وأبحر وسفينة الأقدار.

 

 

التي دومًا تُلقي بي في غيابات المستحيل، مشهد تلو أخر، ودورًا يتبعه دور.

 

 

 ودوافع وانفعالات، وميول، وأماني وآمال، ولا معقول.

 

 

بكاء، وصريخ، وآهات، بسمات غائبة، وضحكات ماتت في عهد الذكريات.

 

 

ومازالت الرواية تُعرض، ومازالت أحداثها تتوالى، ومازلت أمارس لعب أدوارها.

 

 

 ولازالت أدمعي تُغرق صفحات تلك الرواية التي لا نهاية لها، ولازال تصفيق الجمهور يزيد ويقوى.

 

لو عُرض على تجسيد ذلك الدور مرة أخرى، حتى وإن كان بشكل مختلف بعض الشئ، فلن أقبل.

 

 

لن أقبل بدور البطولة مرة أخرى، فأحيانا تتوق نفسك لتجسيد دور “الكومبارس،”فتعيش لاشيئًا.

 

 

 وتكون رحلتك لاشيئًا، ولا تملك بداية، ولا تكون لك نهاية.

 

 

مهمشًا تحيا في اللا حياة، فعندما تكون لاشيئًا، لن يهتم أحد أن يطعنك بخنجر مسموم، فيُميتك.

 

 

 فأنت لا تُخيفه، ولا تأكله نار الغيرة تجاهك.

 

 

لكن ما دمت قويًا، فحتمًا سيراهن على كسرك الجميع.

 

 

تحياتي لك أيها البطل الذي تأبى ستار المسرح أن تُسدل على خشبته.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!