مقالات

كيف يتحول الذهب إلى مؤشر على إنهيار النظام المالي العالمي


✍️ يوحنا عزمي

بينما تنشغل وسائل الإعلام الرسمية في الحديث عن التضخم، وارتفاع أسعار الوقود ، وتقلبات أسواق الأسهم، هناك زلزال اقتصادي بطيء التكوين يتشكل في خلفية المشهد العالمي. زلزال لا تلتقطه الكاميرات ، ولا تتحدث عنه نشرات الأخبار ، لكنه يتجسد بوضوح أمام أعيننا في مؤشر واحد بسيط .. سعر الذهب.

في الأسابيع الأخيرة ، قفزت أسعار الذهب إلى مستويات غير مسبوقة ، متجاوزة حاجز 4300 دولار للأونصة، في أعلى مستوى في تاريخ البشرية منذ بدء تداول المعدن النفيس. كثيرون رأوا في ذلك مجرد “ارتفاع طبيعي”، لكن من يفهم لغة الأسواق يدرك أن الذهب لا يصعد عبثاً. إنه يصعد حين يفقد النظام المالي العالمي توازنه.

بذور الأزمة منذ 1998

القصة الحقيقية لما يحدث اليوم لا تبدأ من عام 2024 ولا حتى من أزمة 2008 ، بل تعود جذورها إلى عام 1998، حين اهتزت أروقة وول ستريت لأول مرة على وقع انهيار صندوق استثماري ضخم يُدعى Long Term Capital Management (LTCM).

كان الصندوق يديره نخبة من علماء الاقتصاد ، من بينهم حاصلون على جائزة نوبل. كانت استراتيجيتهم تعتمد على المضاربة بالفروق الدقيقة في أسعار الفائدة بين الأسواق، محققين أرباحًا هائلة برأس مال محدود ، حتى بلغ حجم تعاملاتهم تريليون دولار تقريبًا.

لكن في أغسطس من ذلك العام ، حدث ما لم يتوقعه أحد :

أعلنت روسيا تخلفها عن سداد ديونها وخفضت عملتها بشكل حاد. خلال أيام ، عمّ الذعر الأسواق ، وهرع المستثمرون إلى الأصول الآمنة – وفي مقدمتها سندات الخزانة الأمريكية. النتيجة ؟ أنهار رهان الصندوق وخسر عشرات المليارات ، مهددًا بانهيار شامل للنظام المالي الأمريكي.

وقتها تدخل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بسرعة البرق، وجمع أربعة عشر بنكًا من كبريات المؤسسات المالية لإنقاذ الموقف بمبلغ تجاوز 3.6 مليار دولار.

نجحت الخطة في تفادي الكارثة ، لكنها لم تزل الخطر، بل نقلته من صندوق خاص إلى النظام البنكي العالمي نفسه.

وهكذا، انتقلت “القنبلة الموقوتة” إلى مكان أعمق وأخطر.

 2008 : حين انفجرت القنبلة داخل البنوك

بعد عقد كامل ، انفجرت القنبلة التي زرعت في التسعينات. كانت شرارتها أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة عام 2008.

البنوك الأمريكية أغرقت السوق بقروض عقارية بلا ضوابط، مما تسبب في تضخم أسعار العقارات بشكل جنوني. ثم حولت هذه القروض إلى سندات مالية باعتها لمؤسسات في كل أنحاء العالم، فصار الاقتصاد العالمي بأسره معلقاً بخيوط العقار الأمريكي.

لكن حين عجز المقترضون عن السداد، انهارت تلك السندات، وفقدت قيمتها ، وبدأت سلسلة انهيارات مدوية في البنوك والأسواق. في سبتمبر 2008 ، أعلن بنك ليمان براذرز إفلاسه ، فانهارت أسواق الأسهم حول العالم ، وتبخرت السيولة المالية في غضون أيام.

حينها لم يكن أمام الحكومة الأمريكية إلا التدخل.

أُطلقت برامج إنقاذ مالية بمئات المليارات، وطبع الاحتياطي الفيدرالي كميات هائلة من الدولار لتغطية الخسائر. نجا النظام مؤقتًا ، لكن الثمن كان فادحًا : التضخم، وديون عامة تجاوزت تريليوني دولار ، وانتقلت القنبلة مجددًا. من البنوك إلى الحكومات.

 2020 : الكورونا وتفجير آخر مراحل الدين العالمي

ثم جاءت جائحة كورونا لتكشف هشاشة البنيان المالي العالمي.

توقفت سلاسل الإمداد ، أغلقت المصانع ، شُلت حركة التجارة ، وتجمد الاقتصاد الدولي خلال أسابيع قليلة.

الحل الوحيد أمام الحكومات كان : طباعة النقود.

الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ضخ في الأسواق تريليونات من الدولارات ، لدرجة أن الدراسات تشير إلى أن 80% من الدولارات المتداولة حاليًا طُبعت بعد عام 2020.

وانضمت أوروبا ، واليابان ، والصين إلى السباق ذاته ، ففتحت صنابير التمويل دون حدود.

كانت النتيجة قصيرة المدى : انتعاش مؤقت. لكن الحقيقة أن ما جرى لم يكن إنقاذًا بل شراء وقتٍ بقروضٍ جديدة. وهكذا، استقرت القنبلة الموقوتة الأخيرة في يد الحكومات نفسها.

الآن القنبلة في يد الحكومات … ولا منقذ أعلى

اليوم تقف الولايات المتحدة على قمة جبل من الديون يزيد عن 35 تريليون دولار ، ويتضخم كل مئة يوم بتريليون جديد.

تكلفة الفوائد على الدين العام تجاوزت ميزانية الدفاع الأمريكية نفسها.

أما اليابان ، فديونها تبلغ 250% من ناتجها المحلي، وأوروبا تعيش أكبر عجز مالي منذ الحرب العالمية الثانية ، بينما الصين بدأت تشد الحزام وتقلل الإقراض الخارجي لتتفادى الانفجار الداخلي.

السؤال الآن : من سينقذ الحكومات نفسها إذا انهارت؟

الإجابة ببساطة : لا أحد.

وهنا بالضبط يظهر تفسير ما يحدث في سوق الذهب.

الذهب … الشاهد الصامت على فقدان الثقة

كل أزمة مالية كبرى في التاريخ كان يسبقها ارتفاع حاد في أسعار الذهب.:

في التسعينات ، ثم 2008 ، ثم 2020 .. واليوم يتكرر المشهد ذاته.

الذهب لا يصعد لأنه سلعة نادرة فقط ، بل لأنه الملاذ الأخير حين تنهار الثقة في العملات الورقية.

البنوك المركزية حول العالم تتسابق الآن لشراء الذهب. الصين وحدها رفعت احتياطاتها بأكثر من 333 طنًا في الربع الأخير من 2024 — زيادة بنسبة 54% عن العام السابق.

إنها رسالة واضحة : حتى القوى العظمى لم تعد تثق في الدولار الأمريكي ولا في السندات الأمريكية كملاذ آمن.

وكلما اشتدت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ومعها سباق النفوذ في آسيا وأفريقيا، زاد الطلب على الذهب كرمز للاستقلال المالي والسيادة الاقتصادية.

النظام المالي العالمي ، كما نعرفه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، يدخل الآن مرحلة تصحيح عنيفة.

الحكومات والبنوك التي كانت تنقذ الأسواق في الماضي، أصبحت هي نفسها تستغيث.

ومع غياب منقذ أعلى ، بدأ الذهب في التحليق ، وسيرتفع على الأرجح إلى 5000 أو حتى 6000 دولار للأونصة خلال الفترة القادمة.

لكن هذا ليس مجرد ارتفاع في الأسعار، بل إشارة إلى انهيار الثقة في النظام بأكمله.

عندما يبدأ الذهب في التحدث ، فذلك يعني أن العالم يستعد لعصرٍ مالي جديد – لا يشبه أي شيء عرفناه من قبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!