✍️ يوحنا عزمي
كان المشهد أشبه بلحظة تُنتزع من مستقبل غير بعيد، مستقبل تتغير فيه موازين القوة وتُكتب فيه معادلات جديدة على يد دول كانت تُحسب يومًا خارج سباق الصناعات الدفاعية الثقيلة.
تخيل فقط أن تظهر في القاهرة طائرة مسيرة شبحية بمدى يتجاوز 1500 كيلومتر ، طائرة لا تشتريها الدولة جاهزة، بل تصنعها وتطورها داخل مصانعها المحلية ، ثم تُعرض لأول مرة أمام العالم في معرض دفاعي ، فتتحول إلى محور ضجيج في الصحافة الإسرائيلية وتملأ نشراتهم بالقلق والتساؤلات. هذا كان المشهد الأول الذي استقبلني قبل أن أبدأ رحلتي داخل معرض الصناعات الدفاعية EDEX في نسخته الرابعة.
دخلت القاعة دون توقعات كبيرة ، وكنت أظن أنني سأرى ما اعتدنا رؤيته في المعارض العسكرية : نسخ معدلة من معدات تقليدية ، مساهمات بسيطة في خطوط الإنتاج، أو نماذج تعرض قدرة تصنيع جزئية. لكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا. بدا كأنني أدخل إلى عالم آخر، عالم يتشكل فيه جيل جديد من الصناعات الحربية المصرية ، جيل لا يعتمد على الآخرين، بل يبنيه مهندسون وخبراء مصريون بجهدهم ومعرفتهم، لدرجة أنني كلما انتقلت من منصة لأخرى وجدت نفسي أكرر السؤال نفسه داخلي : كيف وصلنا إلى هنا؟ وكيف ظهرت كل هذه القدرات فجأة بهذا المستوى من النضج والجرأة والقوة؟
كانت البداية عندما اصطدمت عيني بمنظومة راجمات «ردع 300» المموهة بألوانها العسكرية، ثابتة على مجنزرات قوية وكأنها كائن معدني ضخم يستعد لإطلاق نيران بعيدة المدى. فهمت سريعاً أنني أمام منظومة قادرة على ضرب أهداف على بُعد 300 كيلومتر، وأنها ليست مجرد نسخة معدلة من نظام خارجي، بل منتج مصري كامل خرج من مصانع وزارة الإنتاج الحربي. كنت أرى منصة متعددة الأغراض ، يمكنها حمل حاويات لصواريخ موجهة عالية الدقة أو قاذفًا يطلق عشرين صاروخاً غير موجه ، وكل ذلك على مركبة تتحرك بثبات على الطرق الوعرة والسهول. هذه المنظومة وحدها مكسب استراتيجي ضخم لأنها تمنح الجيش قدرة إضافية على تنفيذ ضربات عميقة دون الاقتراب من مناطق الخطر.
وعندما تحركت إلى الجانب الآخر، فوجئت برأيت النسخة المطوّرة من الراجمة السابقة «رعد 200»، التي خضعت لتحسين شامل في أنظمة التحكم لتصبح هيدروليكية بالكامل، مما رفع دقة الإطلاق وزاد اعتمادية المنظومة.
قدرتها على إطلاق 30 صاروخًا من عيار 122 مم خلال 15 ثانية فقط جعلتني أدرك أننا لا نتحدث عن تجهيزات رمزية، بل عن أدوات قتال حقيقية مطورة بالكامل داخل مصر، وبذخائر محلية الصنع.
مررت بعد ذلك إلى جناح المدفعية ، وهناك كانت الصدمة الأكبر .. مدفع K9 الكوري الجنوبي الشهير ، أحد أقوى المدافع في العالم ، معروض أمامي وقد تحول إلى نسخة مصرية بالكامل تحت اسم «K9A1 EGY»، بنسبة مكون محلي هائلة بلغت 67%، وباتت مصر تنتجه بموجب عقد ضخم وبخبرة متراكمة تضعها بين عدد قليل جدًا من الدول المالكة لهذه التكنولوجيا. رأيت مدفعاً بمدى يصل إلى 40 كيلومترًا بالذخائر العادية ، ويتجاوز 60 كيلومترًا بالذخائر الذكية، قادرًا على إطلاق ثلاث قذائف في 15 ثانية، وقادرًا على التحرك بسرعة تتجاوز 60 كيلومترًا في الساعة. كان أمامي وحش نيراني متكامل ، وليس مجرد قطعة منسقة للعرض.
وبينما كنت أتصفح المعدات الثقيلة ، ظهر أمامي دور المركبات الداعمة ومنظومات الدعم الفني، مثل مركبة «سينا 806» القادرة على سحب وإصلاح المدرعات الثقيلة، والمصفحات المصرية «تمساح» بجيلها الجديد، والعربات رباعية الدفع المجهزة بمدافع ثنائية 23 مم التي تمت إعادة تطوير ارتدادها لتعمل ضد الأهداف الأرضية والجوية.
ثم رأيت منظومة «حارس-2» لمكافحة المسيرات ، التي تجمع الرادار بالمستشعرات الكهروضوئية لإسقاط الدرونات المعادية أو اعتراض اتصالاتها، والمنصة البرية «عقرب» التي تتحرك في البيئات الخطرة بالكامل دون تدخل بشري.
لكن كل ذلك كان مجرد مقدمة لما سيأتي لاحقا، لأن اللحظة التي وقفت فيها أمام درونات «جبار» المصرية كانت مختلفة تمامًا. أمامي شركة ناشئة مصرية اسمها Tornex تعرض لأول مرة عائلة كاملة من المسيّرات الهجومية التي صنعت صدمة حقيقية للصحافة الإسرائيلية. كنت أرى أمامي جيلًا جديدًا من الدرونات الانتحارية التي أصبحت سلاحًا استراتيجيًا في الحروب الحديثة، لكن هذه المرة .. صنع في مصر.
بدأت بالفئة الأولى «جبار 150»، بطائرة خفيفة ، رشيقة ، لا تكاد تُرى على الرادار، برأس حربي يصل إلى 50 كيلوجرامًا ومدى عملياتي يبلغ 1500 كيلومتر. فهمت حينها لماذا الضجيج الإسرائيلي : مدى كهذا يمكنه الوصول إلى أي نقطة تقريبًا في الشرق الأوسط ، وكل ذلك عبر طائرة منخفضة التكلفة مقارنة بمنظومات الدفاع التي تحتاج لاعتراضها، وهو نفس المبدأ الذي قلب موازين حرب أوكرانيا وروسيا.
ثم انتقلت إلى النسخة الأكبر «جبار 200» بمدى يصل إلى 2000 كيلومتر ، قبل أن أصل إلى الفئة المتفوقة «جبار 250» التي كانت الحديث الأبرز في الإعلام العبري. أمامي طائرة مسيّرة بوزن إقلاع 250 كيلوجرامًا، نفاثة، شبحية، سرعتها تتجاوز 570 كيلومترًا في الساعة ، وتحمل حمولة قتالية مؤثرة وتستطيع اختراق الدفاعات الجوية وتنفيذ ضربات دقيقة على مسافات هائلة. كانت تلك واحدة من اللحظات التي تدرك فيها أن شيئًا كبيرًا يتشكل بهدوء داخل مصر ، وأن هناك ثورة صناعية عسكرية تحدث بعيدًا عن الأضواء.
لكن المفاجأة التي لم أتوقعها إطلاقًا ظهرت حين وصلت إلى جناح الهيئة العربية للتصنيع، لأفاجأ بأن شركة Dassault الفرنسية اعتمدت فعلياً مصر كمورد معتمد لقطع في مقاتلة رافال ومحركات طائرات فالكون … أجزاء من الأجنحة ، مكونات للمحرك ، شفرات توربينية كاملة، تُصنع داخل مصنع الطائرات المصري في حلوان وتُصدر لخط إنتاج الشركة الأم في فرنسا. لم تعد مصر تستورد الطائرات فقط ، بل أصبحت جزءًا من سلسلة إنتاج واحدة من أكثر الطائرات المقاتلة تقدمًا في العالم.
ومهما حاولت أن أصف شعوري ، لن أنجح في نقل إحساسي الحقيقي أثناء التجوال بين هذه المنصات والأسلحة والأنظمة، شعور بالانبهار والفخر والدهشة، كأنك تشهد ولادة قوة صناعية لا أحد يتخيل مداها. بقيت طوال اليوم ألتقط الصور وأدون ملاحظات قبل أن ينفد شحن هاتفي من كثرة ما صورته، ومع ذلك كنت أشعر أنني لم أستطع توثيق سوى جزء صغير مما رأيته.
وغدًا سأعود من جديد لأستكشف الأجنحة الدولية والمشاريع المشتركة مع دول مثل الصين وتركيا والولايات المتحدة والأردن، دول جاءت لعرض صناعاتها ، لكنها في الوقت ذاته تراقب ما يجري هنا .. لأن المشهد في القاهرة لم يعد مشهد زائرين يشترون ، بل مشهد دولة تصنع، وتصدر، وتشارك في صياغة مستقبل الصناعة العسكرية في المنطقة.




