مقالات

ماكرون بين وهج الأضواء ولهيب الحرب : فرنسا في قلب صراع لا ينتهي

✍️ يوحنا عزمي

من الواضح أن فرنسا تبدو اليوم وكأنها أكثر الدول الأوروبية تورطاً وتأثراً بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية ، ليس فقط من الناحية الأمنية بل أيضاً من حيث موقعها السياسي في قلب الاتحاد الأوروبي ، إذ تحاول جاهدة أن تظهر في الواجهة كالقوة العسكرية والسياسية الأوروبية الأكبر الداعمة لأوكرانيا.

هذا الحرص الفرنسي على الظهور بمظهر “الزعيم الأوروبي” في مواجهة روسيا ليس بلا ثمن، فقد كلف باريس كثيراً من الموارد والسمعة ، وجعلها في موقف بالغ الحساسية داخلياً وخارجياً ، خاصة وأن الحرب دخلت عامها الرابع دون أن تحقق أيا من الأطراف انتصاراً حاسماً ، بينما تتراكم الخسائر على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية.

لكن السؤال الأعمق الذي يفرض نفسه هنا هو : ما مصلحة الرئيس إيمانويل ماكرون في الإصرار على استمرار حرب استنزاف طويلة ومكلفة كهذه؟

هل يسعى من وراء ذلك إلى تعزيز نفوذه الشخصي داخل الإتحاد الأوروبي وتكريس صورة فرنسا كقائدٍ للمعسكر الأوروبي في غياب الدور البريطاني بعد البريكست؟

أم أنه يسير ضمن سياسة تنسيق غير معلنة مع واشنطن التي ما زالت تراهن على إنهاك روسيا عبر prolongation الصراع ، ولو على حساب أوروبا نفسها؟

ماكرون ، منذ إندلاع الحرب ، لم يترك مناسبة إلا وأكد فيها أن فرنسا “لن تتراجع” في دعم أوكرانيا ، وأن على أوروبا أن تُظهر الحزم والوحدة في مواجهة “التهديد الروسي”.

لكن الواقع يقول إن هذا الدعم تحول مع مرور الوقت من موقف تضامني إلى تورط سياسي وأمني مباشر ، خاصة مع الإمدادات العسكرية الضخمة التي أعلنت باريس تقديمها لكييف مؤخرًا ، خلال زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى العاصمة الفرنسية ، حيث بدا واضحًا أن ماكرون يريد إقناع أوكرانيا بالاستمرار في القتال حتى النهاية ، رغم معرفته الأكيدة بأن كفة الميدان تميل لروسيا وأن الجيش الأوكراني يعاني من إنهاك شديد ونقص في الذخيرة والرجال.

بدلًا من أن يستثمر ماكرون ما يمتلكه من ثقل دبلوماسي وتاريخ فرنسي طويل في الوساطة الدولية لصنع السلام، نراه ينحاز إلى خيار التصعيد ، وكأن هدفه أن يثبت للعالم أن فرنسا ما زالت لاعباً رئيسياً لا يمكن تجاوزه.

والغريب أن ماكرون نفسه يدرك أن السلام في أوكرانيا لن يتحقق عبر السلاح ، وأن أي حلّ مستدام يتطلب حواراً مباشراً بين موسكو وكييف بضمانات دولية. لكن بدلاً من أن يقدم مبادرة سياسية متوازنة تُعيد لفرنسا مجدها كوسيطٍ نزيه كما كانت في مراحل سابقة من التاريخ ، يختار ماكرون أن ينافس الولايات المتحدة على من يكون أكثر تشددًا في دعم أوكرانيا ، رغم أن مبادرة ترامب ـ التي وُصفت بأنها منحازة لروسيا ـ على الأقل حاولت أن تطرح تصوراً سياسياً للحل ، بينما لا يملك ماكرون حتى الآن سوى خطاب تعبوي يهدف إلى إبقاء صورته في صدارة المشهد الدولي.

وربما تكون هذه الرغبة الدائمة في الظهور والتصدر هي مفتاح فهم سلوك ماكرون ، الذي يبدو وكأنه مصاب بداء “حب الظهور السياسي”. فالرجل يتحرك بلا توقف داخل القارة الأوروبية وخارجها، ويغوص في ملفات متعددة لا علاقة مباشرة لفرنسا بها : من غزة إلى لبنان ، ومن السودان إلى فنزويلا، ومن الملف النووي الإيراني إلى الأزمة السورية.

يصر على أن يكون حاضرًا في كل قضية ، وكأن غيابه عنها يعني غياب فرنسا نفسها. غير أن أغلب تصريحاته ، رغم ضجيجها الإعلامي، لا تترك أثراً ملموساً على أرض الواقع، ولا تؤدي إلى نتائج سياسية تذكر ، بل تتحول إلى مجرد استعراض ديبلوماسي أمام عدسات الكاميرات ، يرسخ صورته كرئيس نشِط أكثر منه رئيساً فاعلًا.

هذا السلوك يطرح تساؤلات جدية حول طبيعة شخصية ماكرون : هل نحن أمام قائدٍ طموح يسعى لتكريس مكانة بلاده في عالمٍ مضطرب؟ أم أمام حالةٍ نفسية مدفوعة بهوسٍ مستمر بالبقاء تحت الأضواء؟

إذ كيف يمكن لرئيس دولة عريقة مثل فرنسا ـ التي طالما كانت مدرسة في الدبلوماسية والاتزان ـ أن يبدد طاقته في جولاتٍ واستعراضات خارجية لا تعود على شعبه بأي فائدة حقيقية؟

فالمشكلات الداخلية الفرنسية من تضخمٍ واحتجاجاتٍ وأزماتٍ اجتماعية متراكمة ما زالت تنتظر حلًا، في وقتٍ ينشغل فيه رئيس الجمهورية بمغامرات سياسية خارجية تستهلك وقته وموارد بلاده دون مردود واضح.

يبقى السؤال الأخير مفتوحاً : هل مصلحة فرنسا اليوم تكمن في الحرب أم في السلام؟

فالدولة التي كانت رمزاً للفكر السياسي المتزن وللدبلوماسية المتحضرة، تبدو الآن وكأنها انزلقت إلى موقع تابع للسياسات الأمريكية في شرق أوروبا ، بدلاً من أن تكون قوة توازن عاقلة تسعى لإنهاء الحرب لا تأجيجها.

وربما آن الأوان لماكرون أن يدرك أن الزعامة الحقيقية لا تُقاس بعدد المؤتمرات التي يحضرها أو بالتصريحات التي يطلقها، بل بقدر ما يحققه من استقرارٍ وسلامٍ لشعبه وللعالم. وحتى يحدث ذلك ، سيظل كثيرون يرون في ماكرون زعيماً يسعى إلى الأضواء أكثر مما يسعى إلى الحقيقة ، ورئيساً يلهث وراء مجدٍ إعلامي مؤقت على حساب الدور التاريخي الحقيقي لفرنسا في قيادة العالم نحو السلام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!