مقالات

ماذا تريد إثيوبيا من مصر؟ 

✍️ بقلم : يوحنا عزمي

ماذا تريد إثيوبيا من مصر؟ 

سؤال صار اليوم أثقل بكثير من كونه مجرد استفسار جغرافي أو نزاع على مياه ؛ فالتصعيد الأخير جعل من الموضوع مواجهة إستراتيجية وسياسية لا يمكن تجاهل أبعادها.

أمامنا تقرير جديد وخطير صادر بتاريخ 6 ديسمبر 2025 عن صحيفة The Reporter الإثيوبية ، ويعطي صورة صارخة عن كيفية رؤية قيادة أديس أبابا للوجود المصري في منطقة القرن الأفريقي ؛ صورة لا تميل إلى التحفظ أو الدبلوماسية بل إلى تحد واضح وصريح يكاد يصل إلى الإهانة.

التقرير لا يقتصر على نقد تكتيكي أو اتهام لسياسة خارجية ؛ بل يستخدم لغة تهدف إلى تقزيم والتحقير. إنه يسقط وصفاً لجهود مصر في الصومال والتخاطب مع حلفائها على مستوى “هندسة دول تابعة” عبارة تحمل في طياتها اتهاماً مباشراً بأن العلاقات المصرية لم تكن شراكات متكافئة بل محاولات لصنع كيانات هشة ومطوعة.

المقصود هنا واضح : تصوير حكومات الصومال على أنها مجرد “دمى” في يد القاهرة ، وأن المبادرات المصرية تأتي بغرض خلق تبعيات سياسية وأمنية تسهل التحكم بالمشهد لصالح مصر. وهذه تهمة استراتيجية تهدف إلى هز مصداقية القاهرة ووصمها بأنها تعمل كقوة استعمارية حديثة لا كدولة شقيقة داعمة.

اللغة المستخدمة في التقرير تتعدى الإيحاءات لتصبح تصريحاً صارخاً : “Egypt has sought to engineer pliant, weak and fragmented client states across the Horn of Africa.” والترجمة كما وردت تشير إلى سعي مصر لهندسة دول تابعة ، مطيعة ، ضعيفة ومفككة. هذا الوصف ، إن صح من منظور الخصم الإعلامي، لا يؤثر فقط على سمعة التحركات الدبلوماسية المصرية بل يستهدف جذور شرعيتها أمام الشعوب المحلية في المنطقة؛ فمحاولة تصوير تدخل القاهرة كعمل يهدف إلى خلق كيانات غير مستقلة تُضعف أي قبول شعبي لهذه الشراكات.

أما على مستوى النقد الموجه لقيادة مصر، فالتقرير يذهب إلى حد التشنيع ، معتبراً أن الاستراتيجيات المعتمدة “عفا عليها الزمن” وأن هناك “فشلاً في الخيال” داخل دوائر صنع القرار المصرية. في لغة أكثر حدة قالوا إن النهج المصري يُشبه “كتيب تعليمات قديم” لم يعد يصلح في بيئة إقليمية متغيرة ، وأن الاعتماد على أساليب الضغط والتهديد والتدخل لا يرهب إثيوبيا ولا يردعها، بل على العكس يعكس قصوراً في الرؤية والابتكار السياسي.

الاقتباس الإنجليزي في التقرير: “This misguided approach and effort is a failure of imagination and leadership .. an obsolete playbook that has never cowed Ethiopia.” وترجمته تشير بوضوح إلى اتهام بأن أساليب القاهرة لم تنجح أبداً في إخافة إثيوبيا ، وإن استمرارها فيها دليل على قصور إدراكي واستراتيجي.

ولكن الأخطر ربما هو البُعد المتعلق بالموقف من سيادة استخدام المياه ؛ إذ لا يكتفي التقرير بنقد العلاقات الثنائية بل يحمل إعلاناً سيادياً قاطعاً مفاده أن إثيوبيا لن تسأل أحداً أو تستأذن أي دولة لاستخدام مياه نهر أباي (النيل الأزرق). هذا التصريح ، كما عرضه التقرير ، يتجاوز مجرد بيان موقف إلى إعلان مبادئ يُعمد فكرة أن أي اتفاقات أو عرف دولي سابق لم تعد لها قيمة أمام خيار إثيوبي واضح ومعلن. الاقتباس: “Ethiopia does not and will not seek permission from any country to use the waters of the Abbay basin.” وهذه الجملة حين تُترجم وتُقرأ في سياق العلاقات الإقليمية تحمل رسالة تحرّرية من القيود الخارجية ومن ثم إعلانا لمرحلة جديدة من السياسات القومية حول الموارد.

حين يجتمع وصف “حلفاؤنا دمى ضعيفة” مع وصف “قيادة بلا خيال” ومع إعلان “لن نستأذن أحد” نصل إلى استنتاج بسيط لكنه خطير: إثيوبيا لا تعتبر أن الدبلوماسية المصرية تحمل رادعاً حقيقياً في هذه اللحظة ، وترى أن تكتيكات القاهرة لم تعد قادرة على عبور حاجز الوقاية الواقعية لإرادتها في المنطقة.

هذا التحول في المنطق العام للخطاب الإثيوبي يعيد تشكيل موازين القوة الرمزية والسياسية في القرن الأفريقي ويطرح أمامنا سؤالاً مباشراً : كيف سنرد؟ هل سنكتفي ببيانات شديدة اللهجة تُسجل في السجلات وتُقرأ إعلامياً فقط أم أن هناك خياراً عملياً في الميدان يجعل من رسالة القاهرة أكثر إقناعاً لدى منافسينا وشركائنا على حد سواء؟

الرهان هنا ليس على الشعارات بل على الفاعلية ؛ سواء اتخذت الدولة قرار الرد عبر آليات دبلوماسية أقوى أو عبر إعادة ترتيب أوراق تحالفاتها ، أو عبر إجراءات ملموسة على الأرض، فالمطلوب أن تكون هناك خطة تجعل من مصر فاعلاً لا مستبقاً للأحداث. وأي تأخير في تحويل الغضب الإعلامي والدبلوماسي إلى موقف عملي واضح قد يفسح المجال لمزيد من التجاوزات الخطابية والسياسية من جانب أديس أبابا.

في النهاية ، ما كان يبدو مجرد نزاع حول سد ومياه لم يعد كذلك : أصبح اختباراً لمقومات النفوذ والقدرة على صناعة تفاهمات إقليمية تحفظ مصالح مصر الاستراتيجية.

التقرير الإثيوبي الذي بين أيدينا اليوم لا يترك متسعاً للغموض ؛ إنه تحدٍ واضح يتطلب قراءة هادئة لكن حازمة لآليات الرد ، وإلا فستبقى التساؤلات المطروحة  ـ عن من لديه “الخيال” الحقيقي ، وعن أي دولة هي الضعيفة فعلاً ـ  تلاحقنا في كل محطة من محطات هذا الصراع الإقليمي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!