✍️ يوحنا عزمي
حدث بدا في بدايته مجرد انفجار غامض في بقعة نائية من إثيوبيا ، تحول خلال ساعات قليلة إلى واحدة من أخطر الظواهر الطبيعية العابرة للحدود ، بعدما استفاق بركان خامد منذ عشرة آلاف عام من سباته الطويل ، ليعلن فجأة عن نفسه بانفجار هائل أربك المنطقة وملأ السماء بغبار كثيف امتد أثره إلى دول تبعد آلاف الكيلومترات.
كل شيء بدأ بصوت مدو قادم من تحت الأرض ، صوت يشبه ارتطام قنبلة عنيفة ، تبعه اهتزاز ملحوظ في التربة تحت أقدام سكان قرية أفديرا في إقليم عفار الإثيوبي، قبل أن تتحول سماء الظهيرة إلى كتلة داكنة أشبه بليلٍ مفاجئ.
ولم تمر دقائق حتى اخترق الهواء عمود رماد عملاق ارتفع لارتفاع شاهق تجاوز خمسة وأربعين ألف قدم ، حاملاً في داخله مزيجاً كثيفاً من الغبار البركاني والرماد الساخن الذي اندفع نحو السماء بقوة لا تشبه أي نشاط طبيعي مألوف في تلك المنطقة.
السكان وقفوا مذهولين أمام المشهد ، يراقبون عمود الدخان وهو يتصاعد كأنه انفجار نووي ، ثم يشاهدون سحب الرماد تلتقطها الرياح وتتجه مسرعة نحو اليمن ، ومنها إلى عُمان والإمارات ، ثم إلى الهند وباكستان. وخلال ساعات قليلة فقط ، تحولت سحابة الرماد إلى أزمة إقليمية دفعت بعض الرحلات الجوية القادمة من باكستان والمتجهة إلى أبوظبي إلى العودة اضطرارياً ، بينما أعلنت السلطات الهندية حالة متابعة عاجلة بسبب اقتراب الرماد من أقاليم دلهي وجايبور وراجستان، وبدأت سلطنة عُمان مراقبة مستوى تلوث الهواء عبر الأقمار الصناعية ، مع ظهور آثار واضحة للرماد على مساحات واسعة في دول أخرى.
البركان الذي انفجر على حين غرة يُدعى هايلي جوبي ، ويصنفه العلماء ضمن البراكين الخامدة منذ عشرة إلى اثني عشر ألف سنة ، أي منذ عصور ما قبل التاريخ. ورغم ذلك، انفجر اليوم في لحظة غامضة تماماً ، دون سابق إنذار أو حتى رصد علمي مسبق يشير إلى أن ثمة شيئًا غير طبيعي يحدث أسفل الأرض.
وهنا يبرز السؤال الذي لا يمكن تجاوزه : لماذا الآن؟
وما الذي جعل بركاناً نائماً منذ آلاف السنين يستيقظ فجأة في منطقة تشتهر أصلًا بحساسيتها الجيولوجية الشديدة؟
لفهم الصورة ، لا بد من التوقف عند موقع إثيوبيا الجغرافي، فهي تقع فوق منطقة فريدة تُعرف بـ “مثلث عفر”، وهي واحدة من أخطر النقاط الجيولوجية على سطح الأرض، حيث تتلاقى ثلاث صفائح تكتونية كبرى : العربية ، النوبية ، والصومالية.
هذه الصفائح الثلاث تتحرك منذ مئات السنين مبتعدة عن بعضها ، في مشهد يشبه قماشة تُسحب بقوة من ثلاثة اتجاهات حتى تتمزق. وكل حركة صغيرة تحصل هناك تُحدث شقوقاً في القشرة الأرضية ، وتسمح للحمم والماجما في باطن الأرض بالصعود إلى السطح. ولهذا السبب يتوقع العلماء أن المنطقة ستتشقق بالكامل خلال ملايين السنين، ليتمدد البحر الأحمر داخلها مكوناً محيطاً جديدًا، يشق القارة الإفريقية إلى نصفين.
لكن خلال السنوات الأخيرة ، تزايد الضغط الجيولوجي على المنطقة لعدة أسباب ، من بينها سلسلة الزلازل المستمرة في إثيوبيا ، إضافة إلى وجود سد النهضة الذي يحتجز خلفه ما يقارب 64 مليار متر مكعب من المياه ، أي وزنًا هائلًا يعادل عشرات المليارات من الأطنان. هذا الوزن يضغط مباشرة على منطقة مليئة أصلًا بالشقوق الأرضية والصخور البركانية ، فضلًا عن وقوعها على مسار الوادي المتصدّع الشرقي النشط زلزالياً.
ورغم أن العلم لم يثبت علاقة مباشرة بين السدود والنشاط البركاني حتى الآن، إلا أن العلاقة بينها وبين النشاط الزلزالي مثبتة وواضحة ، وتعرف علمياً باسم “الزلازل المحفزة بالسدود”. وأكبر مثال عليها هو زلزال سد كوينا الهندي عام 1967 الذي أودى بحياة مئتي شخص ، وكان خزان هذا السد يحتوي على 10.5 مليار متر مكعب فقط ، أي أقل بست مرات من خزان سد النهضة.
إلى جانب ذلك ، تشير بعض الدراسات إلى أن بركان “إرتا أليه” النشط في منطقة عفر، والواقع على بعد 15 كيلومتر فقط من بركان هايلي جوبي ، كان يسرب لسنوات طويلة كميات ضخمة من اللافا في بحيرات جوفية. ومع تراكم الضغط الجيولوجي ، توسعت الصدوع في القشرة الأرضية، وبحثت الماجما عن نقطة ضعف جديدة للخروج ، فوجدت مخرجها الطبيعي في بركان هايلي جوبي، ما يفسّر انفجاره المفاجئ.
ورغم كل هذه المؤشرات والتحذيرات العلمية التي يعرفها العالم منذ عقود ، إلا أن الدولة المعنية مباشرة بكل ما يحدث ، أي إثيوبيا ، لم تُظهر أي استعداد أو شفافية أو حتى حد أدنى من التعامل المسؤول مع كارثة بهذا الحجم. سكان المنطقة علموا بالثوران من الصوت الذي مزق السماء والرماد الذي غطى الأفق ، وليس من أجهزة إنذار أو بيانات رسمية.
أما المجتمع الدولي فاستقى معلوماته من الأقمار الصناعية الأوروبية والفرنسية، وليس من السلطات الإثيوبية. والدول المجاورة بدأت تعاني من آثار الأزمة بينما الجهة المسؤولة لم تقدم حتى بيانًا واضحًا يشرح ما جرى أو يعترف بحجمه الحقيقي.
ومع أن إثيوبيا تعلن نفسها قوة إقليمية ، وتبني سدوداً عملاقة دون مشاركة أي بيانات مع مصر أو السودان ، وتخوض صراعات داخلية وخارجية متشابكة ، إلا أن هذه الدولة ذاتها لا تمتلك نظام إنذار بركاني ، ولا إدارة أزمات ، ولا شفافية ، ولا خطة للتعامل مع ظواهر طبيعية قد تتحول خلال دقائق إلى كوارث إقليمية.
والأسوأ من ذلك أنها مستمرة في عمليات الملء والتفريغ في سد النهضة بلا تنسيق مع دولتي المصب ، متسببة في أضرار مباشرة آخرها الفيضانات التي امتدت آثارها من السودان إلى مصر ، ضمن سلسلة طويلة من القرارات الأحادية التي تكشف طبيعة العقلية التي تدير الأمور هناك.
وهكذا ، يتحول حدث جيولوجي مفاجئ في منطقة معزولة إلى أزمة إقليمية كبيرة ، لا بسبب قوة الطبيعة وحدها ، بل بسبب غياب المسؤولية من دولة تقع فوق واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية وخطورة.
وإذا كان العالم اليوم يتابع التطورات من خلال الأقمار الصناعية بدلاً من البيانات الرسمية ، فالمؤكد أن القادم قد يكون أخطر إذا استمر غياب الرصد والإنذار وإدارة الأزمات، في دولة تتحكم في أنهار وبحيرات وزلازل وبراكين ، بلا أي منظومة حماية حقيقية ، بينما يدفع الجيران الثمن أولًا.



