✍️ يوحنا عزمي
أصبح من الواضح تماما ان الشرق الأوسط ينزلق بعنف وبقوة اندفاع غير مسبوقة نحو منحدر خطير .. وأنه علي أبواب تحولات جيوسياسية واستراتيجية كاسحة سوف تغير له الكثير من معالمه الراهنة وما نحن بصدده مع تغير الرؤساء الأمريكيين يؤشر بخطورة ما نحن مقبلون عليه من تحولات إقليمية جذرية لن تبقي شيئا واحداً في هذه المنطقة المضطربة من العالم علي حاله.
إسقاط وتدمير حركات المقاومة ضد إسرائيل إلي محاولة إسقاط الدول وتدمير الجيوش ، هكذا يمضي مخطط الشرق الأوسط الجديد.
انتهت مرحلة غزة ولبنان او قاربت علي الانتهاء ، والآن دخل الإسرائيليون مع شركائهم الأمريكيين وغيرهم ممن قد يكونوا مختبئين خلفهم من الدول ومن اخطر منظمات الإرهاب الدولي في العالم ، مرحلة إسقاط سوريا لاخلائها من الروس والايرانيين ولاسقاط النظام الذي استدعاهم إلي سوريا ومكنهم منها.. ولاغراق سوريا في مستنقع الفوضي والعنف والإرهاب والصراعات الداخلية لتدمير كافة مقوماتها كدولة قابلة للحياة والاستمرار.
هذا هو الهدف ، وهذا هو ما يجري تنفيذه في سوريا الآن.
وما يحدث حاليا في سوريا علي يد المعارضة والفصائل المسلحة مجهولة الهوية والانتماء لإسقاط الدولة السورية بتفكيكها وافقادها تماسكها وتدمير مقوماتها وركائزها التي يعتمد عليها بقاؤها كدولة وطنية موحدة واغراقها في مستنقع الفوضي والصراعات الداخلية المدمرة ، والانتقال منها إلي غيرها من دول المنطقة العربية لالحاقها بها ، هي حلقة في مخطط خارجي اكبر لتذويب الهوية العربية وطمس معالمها ، كمقدمة لاستبدالها بهوية شرق أوسطية بملامح مختلفة وبوجه آخر غير عربي ، وبشبكة تحالفات إقليمية جديدة يحل فيها الأمن الشرق أوسطي بمفهومه الجديد محل الأمن القومي العربي بمفهومه التقليدي القديم ، والهوية الشرق أوسطية الجامعة محل الهوية العربية الضيقة ..
شرق أوسط جديد تحتل إسرائيل موقعا متميزاً فيه .. ولتصبح في قلبه بعد ما كانت تعيش علي هامشه .. ومن اجل ذلك يجري كل هذا الذي نراه الآن .. وهذا يفسر لنا ما لا يكل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو من ترديده وهو ان هناك شرق أوسط جديد يتشكل حاليا ، وان بدايته كانت مع الحروب التي خاضتها إسرائيل علي سبع جبهات في آن واحد وانتصرت فيها علي حد زعمه وتصويره لها .. وهذا التضخيم الدعائي المفتعل من قبل نتنياهو له دوافعه وأهدافه غير الخافية ، وهو محاولة تصوير إسرائيل في حجم اكبر كثيراً من حجمها الحقيقي تمهيداً لأن تأخذ مكانها في هذا المشروع الإقليمي الجديد بدعم الولايات المتحدة الكامل لها.
سوريا مجرد محطة مهمة علي الطريق ، وسقوطها لا قدر الله يعني إنجازا استراتيجياً كبير لأصحاب هذه المخططات الشيطانية الخبيثة ، لكنها لن تكون المحطة الأخيرة ، فما زالت هناك محطات اخري عليهم ان يكملوها وينتهوا منها .. وما لم يتحقق في ظل إدارة بايدن ، سوف يتحقق مع إدارة ترامب ، وربما بوتيرة اسرع وبأصرار وتصميم اقوي .. وإلا لما كانت هذه هي تركيبة حكومة ترامب المقبلة ، مجموعة من النمور المتحفزين والصقور المتشددين ممن يشغل الشرق الأوسط حيزاً كبيراً من اهتماماتهم واولوياتهم . وأما عن غلاة المتطرفين الصهاينة في الكونجرس بمجلسيه ، فحدث ولا حرج.
لم نكن يوما أمام تحديات مصيرية واخطار وجودية داهمة كتلك التي نحن فيها الآن ، فاقطارنا العربية كلها في مرمي الخطر ، ودائرة التهديد تتسع يوما بعد آخر ، كل ذلك والحكومات العربية ما تزال ترقب وتتابع ولا تعرف في اي إتجاه عليها ان تتحرك لتصد عن دولها وشعوبها هذا الطوفان الجارف من المؤامرات ..
فما يحدث هذه المرة ليس ككل مرة ، وسوف تكون ضريبة التلكؤ والتباطؤ باهظة ومكلفة .. فعندما يكون الخطر شاملا وداهما كهذا الذي نحن فيه الآن ، فعلي الجميع ان يكونوا علي مستوي التحدي وألا يبقوا دائما في دائرة الظل.
أرجع مرة أخري واقول ان الأوضاع الأمنية في سوريا تتفاقم وتتدهور بسرعة كبيرة ، مع اتساع رقعة الصراع وتزايد حدة العنف المسلح لتاخذ أبعاداً تثير الخوف والقلق ، والذي تقف وراءه الفصائل الإرهابية المسلحة المتمردة علي الشرعية والخارجة عن سلطة الدولة السورية ، والتي تتزعمها جبهة النصرة الإرهابية التي تقود المعارضة ضد النظام الحاكم في سوريا وتسعي إلي تقويضه وتدميره والتخلص منه ، وهي المعارضة التي تزداد شراسة وجرأة في عملياتها ، وهي الجرأة التي وصلت بها إلي حد قطع الطريق الدولي بين العاصمة السورية دمشق ومدينة حلب باهميتها الاقتصادية المعروفة ، ومنها إلي إغتيال بعض الرموز الأمنية القيادية الكبيرة ، وإشاعة مناخ من الإرهاب والترويع والفوضي الأمنية التي تخدم مخططاتها وتسعي بها إلي تعزيز مواقعها الجديدة كمعارضة مسلحة متصاعدة للدولة والنظام.
وعلي الجانب الآخر من الصورة ، فإن دور الشراكات الإستراتيجية الروسية والإيرانية مع سوريا في دعم مواقفها في مواجهة هذا الإرهاب الداخلي المتصاعد ، يكاد يكون غائبا تماما ولا حضور فاعل له في اي صورة او علي اي مستوي لأسباب عديدة مما يجعل التورط في ما يجري علي الجبهة السورية في الوقت الراهن خارج اولوياتهما الإستراتيجية المهمة او المتقدمة .. وهي أسباب يجب ان تكون مفهومة جيدا لنا حتي لا نخطئ في تقديرنا لها او في حكمنا عليها.
ان تحركات إيران العسكرية في سوريا من خلال حرسها الثوري بقواعده وقواته ومراكز عملياته واتصالاته باتت مقيدة ومعرقلة إلي أقصي حد بملاحقة إسرائيل ومهاجمتها المستمرة لها لإزالة كل اثر للتواجد العسكري الإيراني من الأراضي السورية. وهي تجد في ذلك تعزيزا لأمن قواتها وقواعدها العسكرية في الجولان المحتل ، وكذلك قطع للشريان الحيوي الذي يربط بين إيران وحزب الله في لبنان ، وان ذلك لا يتحقق إلا بتدمير المعابر السورية اللبنانية ، وبازالة كافة اشكال التهديدات الإيرانية من علي حدودها الشمالية حتي تحافظ علي أمن مستوطنيها في المناطق الحدودية.
واما بالنسبة للشريك الإستراتيجي الروسي ، فهو غارق في حربه في أوكرانيا مما ينعكس سلبا علي فاعلية دوره الأمني في سوريا وهو ما يشكل فرصة أمام المنظمات الإرهابية السورية وجماعات المعارضة لنظام الحكم السوري لم تسنح لها بهذا الشكل من قبل وهي لا تتردد في انتهازها باقصي ما تتيحه الظروف الراهنة لها وهي تعرف أنه ليس بمقدور روسيا ان تحارب علي جبهتين كبيرتين في وقت واحد .. وان أولوية روسيا المطلقة تذهب الآن لأوكرانيا واوروبا وليس لسوريا او الشرق الأوسط.
كما يزيد من صعوبة الأوضاع التي تواجه سوريا في مواجهة هذه الهجمة الإرهابية الخطيرة الحالية ، ان العرب مقتنعون ان سوريا اختارت منذ فترة طويلة شركاءها الاستراتيجيين الرئيسيين علي الساحة الدولية ، وهما روسيا وايران ، وفوضتهما بالدور الأكبر في الدفاع عن أمنها وعن أمن نظام الحكم فيها في اعقاب كل ما جري لها بعد أحداث ٢٠١١ المعروفة ، وأنه كنتيجة لتهميش الدور العربي علي القائمة الأمنية للدولة السورية ، فأنه لم يعد لهذا الدور العربي اي تأثير او جدوي ولأنه لم يعد مطلوبا من الأساس ..
ولم يتغير هذا الوضع بعد عودة سوريا إلي الجامعة العربية ، لأن قرار عودتها كان اقرب إلي الشكل والرمز منه إلي الجوهر والمضمون ولا احسب ان هذا الوضع سوف يتغير طالما بقيت أسبابه مستمرة علي حالها.
وأخيراً فأنه لا يجب تبرئة أجهزة المخابرات الأمريكية والإسرائيلية من مسئولية تحريك هذه الفوضي الأمنية الداخلية في سوريا قاصدين منها إسقاطها كدولة وتفكيكها واستنزافها واغراقها لسنوات طويلة قادمة في مستنقع العنف والإرهاب والصراعات الداخلية ، كما حدث لاقطار عربية أخري وما تزال غارقة فيه.
والآن يجيئ الدور علي سوريا لتلحق بها ولتواجه مصيرها
وكل ذلك في مخطط استراتيجي كبير لتغيير معالم الشرق الأوسط الحالي ، والتحول به نحو شرق أوسط جديد ، يكون للإسرائيليين فيه اليد العليا.
باستدعاء روسيا إلي التدخل بالمزيد من أسلحتها الجوية في النزاع المسلح الدائر حاليا في حلب ، لعدم قدرة الجيش السوري علي مواجهة فصائل المعارضة المسلحة باعتماده علي إمكاناته الذاتية وحدها ، وهي الفصائل التي تطلق علي نفسها هيئة تحرير الشام والتي لا بد وان تكون وراءها أذرع دولية وإقليمية عديدة وخطيرة هذا التطور الأخير سوف يسرع بتدويل الصراع الداخلي في سوريا وتصعيده بصورة سوف تصبح سوريا كلها معها او بسببها بؤرة ساخنة ومخيفة من بؤر الصراع الدولي المسلح ، وسوف تتداعي مجريات الأوضاع في سوريا وفي الشرق الأوسط وتأخذ صورا واشكالا غير متوقعة ، وبشكل يتعذر علينا في الوقت الحاضر التكهن بطبيعة تلك التداعيات وحجمها ومداها.
الكارثة الخطيرة التي بدأت تطل علينا برأسها هذه المرة من سوريا باوضاعها الحساسة والمعقدة ، سوف تكون هي الكارثة الأخطر والأبعد مدي قياسا علي ما سوف تتركه من نتائج وتأثيرات هائلة علي كل مستوي وفي كل إتجاه .. الأسباب التي قادت إليها معروفة وليست عصية علي التشخيص ، ولكن ليس هذا وقت الخوض فيها شأن كل ما جري لدول هذه المنطقة من قبل وما سوف يتلوها فيما بعد .. فلا احد يريد ان يتعلم الدرس ، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام الفوضي والعنف والإرهاب ، وقبل هذا كله أمام التدخلات الخارجية بكل صورها واشكالها وأدواتها وعملاءها.
وعلينا ان نعرف ان ما يحدث في سوريا الآن هو حلقة اخري من حلقات سيناريو تغيير كبير لحساب أمريكا وإسرائيل بالأساس سيناريو لن تكون سوريا آخر حلقاته ومحطاته. وانما سوف يذهب من سوريا إلي ما بعدها .. وليبقي الحبل علي الجرار.
هذه رسالة تحذير وإنذار مبكر ابعث بها مع تأكدي أنه لن تجد صدي مسموعا لها ، وسوف يبقي كل شيئ علي حاله إلي ان تقع الواقعة ووقتها الله وحده يعلم ما سوف يكون عليه الحال.