✍️ يوحنا عزمي
جاء سيناريو الأحداث الخطيرة الحاصلة الآن في سوريا ليبعد الإهتمام العربي والدولي عن متابعة المجازر الدموية المروعة التي تدور في غزة علي يد آلة الحرب الإسرائيلية التي تفتك بغزة وشعبها بضراوة ووحشية لم يسبق لهما مثيل.
وفي رأيي ان الحرب الأهلية الشرسة التي تطل بوادرها الآن في سوريا ، والتي سوف تمتد إلي مدي يصعب التكهن بما ستكون عليه نهايته ، سوف تخدم المخطط الإسرائيلي الاستعماري الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، وبصورة قد لا تخطر علي بال احد منا الآن ..
فما يحدث في سوريا ، فإن تداعياته ومضاعفاته قد تمتد إلي العراق والأردن ولبنان واليمن مع محاولة هذه الجحافل الإرهابية المسلحة وبهذه الكثافة العددية الهائلة اختراقها والدخول اليها ، لتدمر لهذه الدول امنها واستقرارها ولتشيع فيها الفوضي والإرهاب ، وتقلب الأوضاع القائمة فيها رأسا علي عقب.
هذا هو ما سوف تحاوله ، وهو ما قد تنجح فيه او تفشل .. فالمؤامرة علي المنطقة العربية كبيرة ، والإمكانات المرصودة لتنفيذها لا بد ان تكون في مستواها .. خاصة وان هذه المنطقة هي حاليا في ذروة ضعفها وتفككها وتبعثر سياسات ومواقف دولها.
وهنا سوف تجد إسرائيل فرصتها في ان تفعل في غزة وفي الضفة الغربية المحتلة ما ظلت تحلم به وتخطط له وتحارب طيلة عام كامل واكثر من أجله وبحرب هي الأطول والأعنف والأكثر تكلفة ودموية في تاريخها ..
ومن الطبيعي ان تذهب أهدافها من هذه الحرب إلي ما هو ابعد بكثير من كل ما تعلنه او تخرج به علي العالم لخداعه وتضليله ولشراء الوقت إلي ان يكتمل مخطط إشعال الحرائق في طول المنطقة العربية وعرضها بالعنف وإثارة الفوضي وبالارهاب المسلح وباسقاط الدول وانظمة الحكم فيها.
وهو ما تتصور ان بدايته الآن في سوريا ، وأنه بمنطق نظرية الدومينو ، فإن الآخرين سوف يسقطون وراءها تباعا ، ولعل هذا هو ما تراهن عليه إسرائيل في هذه اللحظة والمنطقة تعيش واحدة من اسوأ لحظات تاريخها علي الإطلاق.
لهذا كله أقول واكرر ان الموقف الأمني المتدهور بشدة في سوريا اخطر بكثير جدا مما نتصوره ، فسوريا ليست هي وحدها المهددة بخطر الإرهاب المسلح عليها ، ولا هي وحدها المستهدفة بهذه المؤامرة التي دخلت بنا جميعا الفرن في اخطر منعطفاتها ، وانما الجميع يقفون مع ما يجري في سوريا في مواجهة خطر رهيب وشامل ، ومرة أخري وليست أخيرة ، فإن الحريق المشتعل في سوريا لا بد ان يجد من يسارع إلي إخماده واحتوائه قبل ان يتصاعد ويتحول وباسرع مما نتخيل إلي كارثة عربية هائلة وبلا حدود.
لكي نكون واقعيين في تقييمنا لما يجري في سوريا ، فأنه وحسبما تؤشر به كافة الشواهد ، فإن الحكومة السورية ، وهي تواجه هذا الطوفان الجارف من الإرهاب المسلح الذي يكتسح العديد من المدن السورية الرئيسية ويحاول إحكام سيطرتها عليها ، لا تمتلك الإمكانات العسكرية القادرة علي إلحاق هزيمة ساحقة بهذه الجحافل الإرهابية التي تتكاثر وتهاجم في كل إتجاه.
فعلي الرغم من ان إيران ، وهي اهم شركاء سوريا الإقليميين تعلن عن استعدادها لتقديم كل أشكال الدعم الذي تحتاجه سوريا في دفاعها عن أمنها واستقرارها ، إلا ان قدرتها علي تنفيذ وعودها عمليا محدودة ومقيدة مع ترصد إسرائيل لحركة النقل الجوي الإيراني مع دمشق ..
وما حدث اليوم يقدم الدليل علي ذلك .. عندما اجبر الطيران الإسرائيلي طائرة شحن عسكرية إيرانية علي عدم الهبوط في مطار دمشق ، والعودة إلي طهران بشحنة الأسلحة التي كانت علي متنها .. وهو ما سوف يتكرر من الآن فصاعدا .. ويبقي علي إيران خارج حسابات هذه المواجهة.
وكذلك أتصور ان الدعم الجوي الروسي للقوات السورية في المدن والمناطق التي تسيطر عليها هذه الفصائل الإرهابية المسلحة ، لن يتجاوز حدودا معينة بسبب الحرب الاوكرانية ، ولأن الموقف في سوريا قد يتطور للاسوأ ويخرج عن حدود السيطرة ، وهو ما قد ينعكس سلبا وإلي أقصي حد علي مصالحها في سوريا وقد يكلفها ثمنا باهظا قد لا تقدر عليه .. وهي لذلك لا بد وان تحسب الموقف في سوريا بمنتهي الحرص والحذر .. وقدوم إدارة أمريكية جديدة في واشنطن يجعل لحساباتها عن الموقف الحاصل في سوريا بعدا دوليا مهما لا يمكنها تجاهله .. فهي تريد ان تخرج من أوكرانيا لا ان تخرج منها لتتورط من جديد في سوريا ..
وهذا هو آخر ما يمكن ان يفكر فيه او ان يتحمس له الرئيس الروسي بوتين ، مهما قدم من وعود بالمساعدة لصديقه الرئيس الأسد .. او هذا هو ما اتصوره في مثل هذه الظروف الساخنة والمعقدة إقليمياً ودوليا .. وقبل هذا كله ، حساسية أوضاع الداخل الروسي نفسه الذي كرهت سيرة الحرب .. في أوكرانيا كما في سوريا كما في اي مكان في العالم.
ومن هنا ، فإن الرئيس السوري بشار الأسد يواجه أخطر تحد له ولنظام حكمه منذ تسلمه مهام الرئاسة السورية قبل اربعة وعشرين عاما ، وهو نفسه ليس متاكدا مما قد تأتي به تطورات هذه الأحداث المتلاحقة وسط هذا المناخ العربي والإقليمي والدولي المتوتر والملغوم بكل عوامل الخطر ..
ولهذا ، فانه لا بد وان يكون ماثلا في حسابه وهو يجري تقييمه لكافة السيناريوهات المحتملة ، ان هذه التطورات المتسارعة التي انفجرت مرة واحدة ، وبهذا الزخم الهائل ، قد تاخذ سوريا وراءها في اي إتجاه .. وهذا هو أصعب ما في موقفه الآن.
تحرك كل تلك الفصائل السورية المسلحة في حلب وادلب ومنها إلي حماة وإلي غيرها من المدن السورية الرئيسية المهمة ، بهذه الكثافة العددية الملفتة ، وبالأسلحة الثقيلة والمتطورة التي تحوزها وتواجه الجيش السوري بها ، وبهذه الدرجة العالية من التخطيط والتنسيق الذي يطبع تحركاتها ، ويجعلها تتقدم وتكتسح بهذه الصورة المتسارعة والمذهلة والتي لم تكن واردة علي بال او في توقع احد .
كل ذلك يقطع بأن هناك قوي خارجية إقليمية ودولية كبيرة تقف وراءها في ما اقدمت عليه ، وتسعي من خلاله إلي تفكيك روابط الدولة السورية ببعضها ، وتدبير بنيتها الأساسية من إقتصاد واتصالات وإدارة حكومية ، الخ ، لاسقاطها في النهاية كدولة والتعجيل بانهيار نظام الحكم فيها ، وهو ما يمكن ان يقلب كل الحسابات والتوقعات الراهنة رأسا علي عقب.
أريد هنا ان اقول ، ان هذه التنظيمات الإرهابية المسلحة والتي تطلق علي نفسها اسم هيئة تحرير الشام ، هي خليط من النصرة وداعش والقاعدة وغيرها من التنظيمات التي تضع أقنعة دينية مزيفة علي وجوهها لتخفي بها حقيقتها ، قاصدة من ذلك الخداع والتمويه والتضليل ، والدليل علي ذلك هو أنه للشهر الرابع عشر علي التوالي لم نري أثرا لكل تلك الجماعات والتنظيمات المسلحة في غزة ، حيث يشن الإسرائيليون عليها واحدة من افظع حروب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والنهجير القسري ، ومن حروب التجويع والحصار والترويع وقطه كل أشكال المساعدات الإنسانية والاغاثية عن شعبها المناضل ..
ومع ذلك اختفت كل تلك الجماعات وتلاشت وكأن الأرض انشقت وابتلعتها .. فلم نسمع عن رد فعل انتقامي واحد قام به اي تنظيم مسلح منها ليعبر به عن مشاركته او تضامنه او دعمه لغزة المنكوبة وشعبها ، وتركوها تواجه مصيرها البائس علي يد إسرائيل رغم ان من فجروا طوفان الأقصي كانوا من ذوي التوجهات الإسلامية مثلهم .. فكيف يتفق هذا وذاك ؟ ..
اي تجاهل وتهميش وابتعاد في مواجهة مفصلة حرب إسرائيلية شيطانية وشريرة تقتل وتبيد الفلسطينيين بلا رحمة وبهمجية لم يسبق لها مثيل ؟
هذه كلها بضاعة مغشوشة ، وصناعة مخابراتية بأمتياز ، وهي أدوات عميلة ومأجورة وزمامها بيد من يمولها ويسلحها ويدربها ويوفر لها الإملاءات الآمنة ويرسلها إلي المناطق التي تزاول فيها مهامها الموكولة إليها وضمن الإطار المرسوم لها .. وجاء الدور الآن علي سوريا لتخريبها وايقاعها وإثارة الفوضي فيها ، وهو ما لن تستفيد منها غير إسرائيل وداعميها.
المسالة ليست في الرئيس السوري بشار الأسد ولا في نظام حكمه أيا ما كان ما يقال عنه او يجري انتقاده به او لومه عليه ، فهذا هو حال العديد من أنظمة الحكم في كل مكان ، وإنما المسالة الحقيقية هي وبالأساس في بلد عربي كبير ومهم هو سوريا والذي هو ابقي واكبر من كل نظم الحكم فيه او المتعاقبة عليه ، بلد عربي يوشك علي الإنهيار والتفكك والضياع ، وهو ما سوف ينعكس بالوبال علي الجميع شاءوا او أبوا ..
فدخول الإرهاب والعنف المسلح إلي سوريا بهذه الجحافل الإرهابية المخيفة وتمكنه منها ، سوف يجعل منها وبلا مبالغة احد أخطر مراكز صناعة وتصدير الإرهاب في العالم وسوف تكون دول المنطقة العربية هي اكثر من سوف تدفع الثمن فيه .. وهذا هو اكثر ما نتخوف منه ونخشاه ونحذر منه ونحسب لعواقبه ألف حساب .
دعونا نري الواقع علي حقيقته حتي لا نقع في ما يمكن ان نندم طويلا عليه … إنقاذ سوريا من هذا المصير المجهول اولوية يجب ان تتقدم علي كل الأولويات .