بقلم :ضياء علي الدعاس
«مدارٌ لا يُحاطُ به»
ليس للحُبّ خارطةٌ تُطوى، ولا مسافةٌ تُقاس؛ إنّه سفرٌ تُعَدّ فيه القلوبُ سُفُناً، وتُبدِّلُ خلاله الأرواحُ موانِئَها، فلا يرسو العابرون مرتين بالملامح نفسها.
تقصده النفوسُ كما يقصدُ الظمآنُ السحابةَ: قد تُمطر، وقد تمضي، غير أنّ ظلالَها تكفي لتُعيد للتربة سرَّ الاخضرار.
رأى الرافعيُّ في الحُبّ “قوّة تُصفِّي القلبَ صَفْوَ الماء”، وجعله المنفلوطيُّ “دمعةً من عطرٍ تهبطُ على النفس فتزيدها رِقّةً على رِقَّتها”. وكلاهما أومأ إلى أنَّ الحُبَّ عمليةُ صقلٍ خفيّة؛ يهبُ الإنسانَ قدرةً على تلمُّس الجمال كأنّه أوَّلُ الخلق، ويعلِّمه أنَّ الرحمةَ ذروةُ القوة لا نقيضُها.
وعلى الضِّفَّة الأندلسيّة، يستوقفنا ابن حزم في طوق الحمامة ليُدخِلنا مختبرَه الدقيق؛ فيُعرّف الحُبَّ بأنّه “اتِّصالٌ بين أجزاءِ النُّفوسِ المقسومة في هذه الخليقة”، ويقول إنّ علامتَه الأولى إدمانُ النظر لأنّ العينَ – في رأيه – تُفصحُ عمّا يَستعصي على اللسان. بذلك ينتقل الحُبُّ من مجرّد وجدٍ غامضٍ إلى ظاهرةٍ يمكن رصدُ إشاراتِها: رعشةُ الصوت، خفَقُ الجفن، وتغيُّرُ ملامحِ الوجه ساعةَ يَهلُّ الغائب. وهنا يكتملُ مثلّثُ الرؤية: رهافةُ الرافعي، عطرُ المنفلوطي، وتشريحُ ابن حزم؛ فيلتقي الشعورُ بالتحليل، فلا يضيعُ الحُبُّ بين التجريد والتجربة.
وعند هذا الحدِّ تُضاء كلماتُ نزار قبّاني:
الحُبُّ ليس روايةً شرقيّةً
بختامِها يتزوّجُ الأبطالُ
لكنّه الإبحارُ دون سفينةٍ
وشعورُنا أنّ الوصولَ مُحالُ
تُذكِّر الأبياتُ بأنّ الحُبّ أوسعُ من خاتمةٍ تُعقدُ فيها الأكاليل؛ هو وثبةٌ نحو المجهول، توازنُ بها الروحُ بين خشية الضياع ولذّة المجازفة.
وإذ تتعدَّدُ التجارب، يبقى رابطٌ واحد: أنّ الحُبَّ قوّةُ تغيير قبل أن يكون قوّةَ اقتران؛ يُعيد ترتيبَ الداخل حتّى يكتسب المرءُ شجاعةَ أن يحيا على الحافة وهو يبتسم. فإذا انصرف بقي أثرُه ضوءًا شفيفًا على صفحة الذاكرة؛ يُنذرُ الكراهية إذا اقتربت، ويربِّت على الجراح كي تلتئم.
هكذا تَمّت الوجوهُ الثلاثة التي عَرَضَتها هذه السلسلة:
وجهُ السؤال الذي يوقظ، ووجهُ الدهشة الذي يُعمِّق، ووجهُ الخلاصة الذي يَهدي إلى حقيقةٍ لا تُغلِّفها نهاية مُحكَمة.
ذلك لأنّ الحُبّ – في جوهره – مدارٌ لا يُحاط به؛ كلّما طاف به الفكرُ اتّسع، وكلّما حاولت اللغةُ تطويقه انفلت عنها كالضياء من بين الأصابع.
فليظلّ إذن كما هو: اغترابًا يُلهم، وقُربًا يُحرِّر، وسؤالًا مفتوحًا على احتمالات الجمال كلّها؛ فمن رام له حدودًا، فقد نازع الريحَ مهبَّها، ومن آمن بأنّ سِرَّه في اللاحدود، أشرق في قلبه فجرٌ لا يأفل