ملك كرم الهواري.
نتقلَّبُ بين طياتِ الأيام، من حالٍ إلى حالٍ في غمضةِ عينٍ، قد نسلك مسارات لم نرغبْها، نحظى بقلوبٍ لم نرَها، نستند إلى من كرهناه يومًا، ننفر من آخرٍ أحببناه، كمن أوجعه حامل الأفعى لا لدغتها، ونتيه في صفحاتِ الزمانِ.
قد تتبدَّل النفوس؛ لقسوة الحياةِ، نطمئن مع من ظنناه مصدرًا للخوفِ، نخشى ممن كان ظلًا آمنًا نحتمي فيه من لهيبِ الدنيا، قد نشدد على قلوبنا؛ لتقوى، لتجابه مشقات الحياة؛ كي لا تُجرح مرةً أخرى، ويصعب التئامها.
ليس من الصعبِ أن نترك الدنيا تغيرنا إلى الأسوء، تنتزعُ الحلو فينا، تحولنا إلى قساةٍ على أنفسنا والآخرين، نرى السوء من كل شيءٍ، الخوف والقلق يتسلل إلينا كلما خطونا إلى الأمامِ، فنرجع ألف خطوةٍ خشية الإقدام، أن نترك الدنيا تهزم قلوبنا الرقيقة، تُمحي ما تبقَّى من النقاء داخلنا، وتُسكن اليأس في دارنا أبدًا.
لكن ليس سهلًا أن نحافظ على نقائنا، أن نحمي قلوبنا من أن يشوبها سوء الدنيا، أن ننظر إلى الجميلِ من اللحظاتِ، المواقف، الأشخاص، أن نطالع الموجود لا المفقود، نسعد بما نملكه ولا نتمعن فيما يملكه الناس، ونرى النعم بين ثنايا الابتلاء.
ليس سهلًا أن نرى المسرَّات في خضم المشقات، أن نصد اليأس عن التسلل إلى قلوبنا، نُسكِن الأمل فينا رغم أنف الدنيا، أن نرضى بالقليلِ ولا نتطلع إلى كثيرٍ مُنع عنَّا، أن نتمعن في جمالِ ما حولنا ولا نرى القبح فقط، نرى الدنيا بعينِ نقائنا، لا بعينِ مرارةِ الأيام، وقسوة الزمان.
تخبرني صديقتي دومًا: كم للّٰه من لطفٍ خفي!
فأبتسمُ وأتذكر كُل جميلٍ في حضرةِ القُبح، كُل درسٍ في حضرةِ البلاء، كُل نعمةٍ في حضرةِ السلب، كُل عطاءٍ ظاهره المنع، كُل عطفٍ ظاهره القسوة، وكُل عوضٍ خُفِي إلى وقتٍ معلوم.
أمضي في الحياة بقلبٍ يُؤمن بأنَّ الجمال حولنا كثير، لكن لا تُبصره قلوبٌ همها الوحيد الركض خلف الدنيا، أن تحصل على كل ما تريده، لا تقنع برزقها بل تسعى للزيادةٍ، أمضي وبداخلي حقلٌ من الزهور، يرويه الإيمان بأنَّ أقدار اللّٰه خيرٌ وإن بدا غير ذلك، بأنَّ الجمال مخفيٌ عن أعيننا إلى أن نبصره بقلوبنا، وأنه موجودٌ بكثرةٍ لكن لمن يبحث عنه بين أكوامٍ من السوءِ بلا كلل ولا ملل.
بداخلي حقلٌ من الزهور إن أبصرته؛ ستدرك أنَّ الحياة لا تزال تحمل بين ثناياها قلوبًا سليمة، مفعمة بالحبِ والأمل، يخشى اليأس أن يأتيها، يهاب القلق أن يزورها، فهي مفعمة بالإيمانِ والتسليم، توقن أنَّ اللّٰه لن يخذلها، ولن يردها خائبة.
من يعِش في كنفِ اللّٰه؛ يُسلِّمْ أمره ويرضَ بأقدارهِ وإن كان ظاهرها الضر، فهو على يقينٍ بأنَّ بين ثنايا الضر خيرًا كثيرًا، في نهاية طريقِ اليأسِ أملٌ، فهو يُبصر الجمال أينما كان، يُردد: بداخلي حقلٌ من الزهورِ لا يظمأ، فالجمال حوله أينما أبصر يرويه.