شريف جلال القصاص
أخطر ما قد تواجهه يومًا ليس وحشًا في الظلام، ولا قاتلًا يحمل سكينًا، بل أن تلتقي نفسك… وتكتشف أن القاتل يسكن داخلك، يعرف أين يوجعك، يجمّد الدم في عروقك، يضبط نبضك على إيقاع الموت، ويقنعك أن اليأس خلاص، وأن الموت راحة، يتعقّب روحك حتى تسبق جسدك إلى الهاوية، يسلخ إرادتك ويغرس سمّ الإحباط في أعمق زوايا وعيك، ثم يدفعك برفق…ويغلق الستار على قصتك البائسة.
هذه ليست زخرفة لغوية ولا فلسفة للترف… ما ستقرأه قد يلتصق بك أكثر مما تظن.
شدّ وثاق وعيك، واخطُ معي بحرص في وحل شتاء لشبونة 1839، حيث الكلمات لم تكن تُقال… بل تقتل.
كانت الأمطار تغسل حجارة “ألفاما” في لشبونة، والجسر المائي “أغواس ليفرس” يعلو فوق المدينة كهيكل أسطوري يراقب الوادي، حكايات عن أصوات غامضة لا يرويها من سمعها، لأنهم جميعًا سقطوا بعدها بوجوه جامدة وأجساد بلا مقاومة… كأنهم اختاروا النهاية بأنفسهم.
الصحف سمّتها “لعنة الجسر”، والناس خرجوا بمظاهرات محدودة يطالبون بوقف “المجزرة الصامتة” والقبض على الجاني، عندها استُدعي المحقق “خواو أمارو”
لم يؤمن “أمارو” بالأشباح، لكنه لم يؤمن أن أحدًا يقفز بلا سبب، جمع شهادات الباعة والأطفال وسائقي العربات، وكلهم وصفوا رجلًا واحدًا: قوي البنية، داكن الشعر، عيناه ثابتتان، يبدأ صامتًا ثم يهمس بكلمات قصيرة.
الوصف انطبق على اسم واحد تكرّر:
“دييغو ألفيز” مهاجر من غاليسيا الإسبانية، يعمل حمالًا بالنهار ويختفي بالليل.
استُدعي “ألفيز” للتحقيق، لكنه كان متماسكًا أكثر من اللازم، يجيب بثبات كأنه يحقق مع المحقق نفسه، لم تكفي أدلة الإدانة، وقبل أن يُفرج عنه، دخل شاب يُدعى “مانويل روكا” — آخر من شُوهد على الجسر قبل أن يُنقذ — وما إن رأى “دييغو” حتى تجمّد وقال بصوت مبحوح:
وقف أمامي فجأة اخترقت عينه عقلي، ثم همس كشيطان
“يعاتبني على بقائي في الدنيا بلا طائل… أقنعني أن رحيلي أفضل لي وللجميع، قال إن الألم سينتهي بخطوة واحدة للأمام… وإنهم جميعًا ينتظرونني:
أبي..
أمي…
حتى كلبي الذي مات..
رأيتهم أمامي، وأردت الذهاب.”
ساد الصمت” أمارو” سمع عن غسيل الدماغ، لكن أن يحدث في دقائق… كان هذا شيئًا آخر.
استدعى الدكتور “إدواردو فالينتي” أشهر محلل لأنماط الكلام، جلس أمام “دييغو” وبعد عشرين دقيقة صار صوته أبطأ وعيناه شاردتان، وهمس:
“صحيح… ربما هناك مكان أفضل…”
اقتحم “أمارو” الغرفة قبل أن يُكمل، لم يشرح “فالينتي” ما حدث، واكتفى بجملة:
“لا تنظروا في عينيه.”
بعد أن ارتطم “أمارو” بجدارٍ مسدود في محاولاته لإثبات “لعنة الجسر”، عاد إلى ما يتقنه:
البحث عن الأدلة المادية، رجل بتلك الطاقة الشيطانية لا بد أن يخلّف وراءه خطايا وجرائم، حتى وإن طالها النسيان.
غاص في أرشيف الشرطة، يقلب سجلات القضايا غير المحلولة، إلى أن استوقفه ملفٌ ارتجفت أصابعه وهو يفتحه:
جريمة قتل طبيب وزوجته وابنته الصغيرة، تبعها سرقة مجوهراتهم، والبائع الذي اشترى المسروقات وصف القاتل بملامح لم تخطئها الذاكرة:
الوجه ذاته… والندبة أسفل الذقن.
توسعت التحقيقات، ثلاث جرائم أخرى في الريف، كلها بدم بارد بهدف السرقة، رسمت خيوطًا سوداء تقود إلى اسم واحد:
” دييغو ألفيز”
وعند مداهمة منزله، وُجدت كنوز ضحاياه وبصمات لا جدال فيها، في المحكمة تجاهل الادعاء “لعنة الجسر” التي لا يمكن إثباتها، واكتفى بالجرائم المادية.
وفي النهاية، صدر الحكم: الإعدام شنقًا.
وفي صباح 19 فبراير 1841، تقدم “دييغو ألفيز” نحو حبل المشنقة بوجهٍ جامد، كأنما يسخر من العدالة ذاتها.
لم يكن الحبل بحاجة إلى كلمات يقنعه بها كي يطبق حول عنقه؛ فقط شدّ قبضته الصامتة، لينهي سيرة رجلٍ حيكت حوله الخرافات بقدر ما حفلت بالدماء.
وهكذا، تنفّست لشبونة ـ بل والبرتغال كلها ـ الصعداء أخيرًا… كأنما انطفأ ظل الجسر مع سقوط جسده.
احتفظت كلية الطب برأسه في وعاء “فورمالديهايد” لدراسة “الدماغ الإجرامي”، بعد عقود، شكا الزوار من دوار وضيق تنفس عند التحديق في عينيه الزجاجيتين، وقبل أعوام سجّلت أجهزة المختبر ترددات منخفضة داخل الوعاء… شبيهة بالموجات الدماغية لحظة تكوين الكلمات.
قد يفسّر العلماء ذلك برهابٍ أو هلوسة جمعية، وربما يجدون له تفسيرًا فيزيولوجيًا آخر، لكن سواء كانت الحقائق مؤكدة أو مغلّفة بالمبالغة، تبقى العبرة:
بعض القصص، حتى وإن تشابكت بالأساطير، ليست مجرد حكايات للدهشة، بل أمثال تختصر خبرات البشر وتنير الطريق أمام الغايات، تذكّرنا أن الخطر الأكبر ليس دائمًا في رصاصة أو سكين، بل في الكلمات التي تتسلل إلى أعماقنا، تغيّر موازين وعينا، وتدفعنا أحيانًا إلى أن ترتكب ابشع الجرائم في حق أنفسنا دون أن ندري.
الكلمة في لحظة ضعف ليست مجرد صوت، بل شحنة تغيّر الدماغ، تطلق الكورتيزول والأدرينالين، وقد توقف القلب فجأة بما يُعرف بـ “متلازمة القلب المنكسر”، في علم النفس يسمّى هذا “الإيحاء القاتل”:
أن يتلقّى الدماغ أمرًا في بيئة مشحونة عاطفيًا فيحوّله إلى حقيقة بيولوجية.
صديقي…
حين تسمع الكلمة التي تريد قتلك، تخيّلها ظلامًا سائلًا يتسلل عبر أذنك، يبحث عن أعمق غرفة في قلبك ليجلس فيها، إن سمحت له، سيلتف حول نبضك حتى يخنقه.
عندها ستجد نفسك في ساحة معركة داخلية:
على جانب يقف طابورك الخامس من الأصوات التي تفتح حصنك للعدو، وتكسر سلاحك قبل أن تطلقه…
وعلى الجانب الآخر، يقف صوتك الفدائي، يقاتل وحيدًا ليبقيك واقفًا.
لقد مات “دييغو ألفيز” بالحبل، لكن أثر كلماته لم يُشنق معه؛ ظل يتردّد كطيف، يذكّر أن السلاح الأخطر ليس ما نحمله في أيدينا… بل ما نزرعه في عقول الآخرين.
والحقيقة أن كل واحد منا يحمل “جسرًا” داخليًا يقف عليه في لحظات انكسا،. هناك تقترب الكلمات — لا الرصاص — من دفعك إلى تابوت مظلم.
النهاية الحقيقية ليست في سقوط الجسد من فوق جسر، بل في اللحظة التي تسمح فيها لكلمة أن تدفعك من حافة ذاتك.
“فإمّا أن تُدفن حيًّا داخل نفسك، أو تكتب نهايتك كمن يضع توقيعه الأخير على أسطورة لا يمحيها الموت ذاته .”