ابداعات

لي ذات

 

أحمد المقدم

 

لطالما أشفقت على هؤلاء الذين أوجه لهم ذلك السؤال الوجودي ” ما أنت حقا؟ ” 

في جلسات نقاشية تدور رحاها بهم، إذا هم يضربون أخماس فى أسداس و يتصببون عرقا لاهثين وراء كلمات يعبرون بها عن أفكارهم ومشاعرهم بلغة أخرى غير لغتهم الأم وتلك هي طبيعة عملي كمحاضر يحاول إشغالهم بالحديث باللغة الهدف، إذ يأتي ذلك السؤال السهل الممتنع الذي يواجه للمرة الأولى بضحكات استنكارية ولسان حالهم يقول: ” حقا أمهلنى بعض الوقت ربما ثوان أو دقائق حتى أعلم من من أنا لأخبرك من أنا. وغالبا يطرح البعض إجابات ينفلت بها اللسان دون القلب فتتفاعل العيون بالمزيد من نظرات الحيرة لأنها إجابة لا تسد رمق النفس التواقة إلى معرفة الحقيقة، حقيقتنا نحن.  

 

أما أنا، فلا أجدنى أهلا لأمنح إجابة شافية لنفسي التى لا تقل رغبة هي الأخرى إلى معرفة حقيقة لا أعلم ربما طوتها حوادث الزمن ونوائبه أم تاهت في أعماقي أم أن روحي لا زالت تهرول وتختبيء خلف ذلك الطفل اللعوب الذي يدلل ذاته ويلهيها وببراءة يأخذها إلى متاهة الحياة دون أدنى تفكير في مئال الأمور إلى ذلك. بل أزيدكم يا سادة من الشعر بيتا، بل سطورا من الشعر لإيليا إبي ماضي لا تنفك تخالط ذهني وأجد فيها جوابا عبثيا لا أستطيع سواه إذ يقول: 

جئت لا أعلم من أين 

ولكنى أتيت 

وتستهل عيناي الجواب لهذا السؤال بهاذين السطرين ثم تواتيني البقية بعد ذلك:  

أنا لا أذكر شيئا من حياتي الماضية 

أنا لا أعلم شيئا عن حياتي الآتية

لي ذات غير أنى لست أدري ماهي

فمتى تعلم ذاتي 

كونها ذاتي؟ 

 

ربما الذات، ونقول النفس أيضا، هي المطلق الذي نحياه ولا ندركه، او ربما الذات هي ما يراه الآخر فيعطي وصفا لما يراه وهي في ذلك معادلة نسبية تتمايز أبعادها بتمايز الآخر.  

 

أقسم لكم يا سادة بأغلظ الأيمان أن أقصى درجات الوعي هي تلك الأيام والسنون التى نعرف فيها ما نحن وليس من نحن. إنها لحظة نستقبل فيها الجواب الذي ينبع من دواخلنا في لحظة يتحد القلب والعقل معا فنصل إلى جواب يشبع نهم النفس التى أعياها بقاؤها إلى حيث لا تنتمي. لكأني والنفس غريبين نحتاج إلى البدء من جديد في معرفة كل منا الآخر.  

 

وفي تلك اللحظة التي أدركني فيها أحيا الازدواجية بينى وبين النفس و تزاد الحيرة بين مَن الذات ومن الآخر، 

 أنا أم نفسي.  

وكأنى أحيا لحظة سيريالية تخلو من المنطق ويتحول جزء من الحقيقة إلى شيء مبهم. 

 

يطلق الآخرين علينا صفات نستقبل الحسن منها ونرفض القبيح فنلبس أنفسنا رداءا نورانيا نخلعه من جسد الملائكة وكأننا أحق بأن نكون كائنات نقية لا تخطيء، ولا نستقبل الذميم لاننا لسنا من النار مخلوقون. وذلك عبث ربما لو تحدثت الذات لقالت غير ما نقبل وما ننكر.  

 

لا أحب الدفاع عني أمام آراء تظل مجرد آراء. فلا أجد فيها إشباعا لرغبتى في معرفة جواب السؤال، ربما لنسبيتها التى تعتمد على ما تحويه قلوب الآخرين أو عقولهم نحونا. وهناك أيضا اعتبارات أخرى كالمداهنة و الجهل والانطباع وخلافه. ليت الأمر به قبس حتى من النرجسية ارى ذاتي به مقدسة منزهة عن الخطأ كمريم البتول، ولكنى أعلم علم اليقين أني لم أخلق لأكون قديسا، فأنا شخص أجزع وأعجز و أيأس وأغضب وأطأطأ رأسي وأتعب، وأنا ذات الشخص الذي أعيش عكس ذلك عندما أستقبل الحياة وأعانق الأيام وأقبل يد الأمل ورأسه.  

 

إننا يا سادة قد أخطأنا، أو بعضنا، عندما ألبسنا عقولنا رداءا قد صممه المألوف والتقليد من مجتمع لا يألف سوى حياة القطيع. وقد اختبأنا وراء تحجر فكري يقوم أساسه على النقل الذي اعتبرناه نحن المنطق وليس المنطق الفكري الناقد.  

 

ليس هرطقة عندما يقال أن الدين هو أفيون الشعوب، وذلك للسبب ذاته وهو أننا نلبس بعض من يمثلونه رداء العصمة والقداسة فننقل ما ننقل من دأبهم دون تمييز ودون تدبر فأصابنا ما أصابنا من الجمود الفكري الذي جعلنا نجهل ما نحن.  

 

وليس شذوذا فجا عندما نضع البعض من التقليد أو جُله في موضع الجاهلية الأولى، فالإجرام بحق الذات وتغييبنا عن فهمها هو أن نقول بأفعالنا “هذا ما وحدنا عليه آباءنا”  

 

وليس قبحا ولا ذما عندما نفكر بعقولنا وليس بما تمليه علينا عقول السابقين. وحتى لا يجلدنى البعض بسياط الانتقاد وكأنى ملحدا بعقيدة الثوابت. 

فلا مساس بثوابت لها حجم لا يزيد بمرور الزمن و توالي العهود. بل إن كل الجرم في أن نتبنى 

المتغيرات التى قد نتجت ممن ليسوا مخولين لأن يكونوا منزهين بالثوابت ونعتبرها دستورا وعقيدة لا مساس بها.  

 

إن جواب السؤال يا سادة يقوم في الأساس على أن ننقذ أرواحنا من أوحال المستنقع الذي وقعنا فيه على رؤوسنا فغابت عن التفكير في حقيقة ذاتنا. بل إننا فقط نحيا داخل المستنقع ولا نرى سوى الآخر فنسقط عليه عيب الغوص في المستنقع، وإن حاول الخروج ربما نشد من أزره حتى إذا خرج عبنا عليه الخروج دون مساعدتنا. 

 

إن معرفة الذات هو الخروج إلى النور، هو تحويل الجحيم إلى جنة تمتليء برغد العيش بحرية من قيود الجهل بحقيقتنا. 

 

إن معرفة الذات هو لحظة ميلاد نعيش فيها نقاء الطفل و حكمة الكهل وريعان الشباب

 

أما الآخر، وللمرة الأولى هنا أعتبره المجتمع بأسره ، إذا أطلق

 حكما لا يعدو كونه رأيا لا يهم إن كان منصفا أو جائرا فلا يجب علينا بأي حال من الأحوال الإذعان لمدى حقيقته.  

وعن معرفة الذات فهي لحظة يتعانق فيها العقل والقلب معا ويقبل كل منهما دوره وذلك هو مربط الفرس. أما الآخر، فأنا كما تراني

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!