ابداعات

يمان: مستخرج الظلال

 

بقلم – جلال الدين محمد 

 

كأنها عين قرصان أصابها العمى فوضع عليها تلك العصابة السوداء التي تجعله أكثر شراسة. هكذا بدت نافذة غرفة “يمان” بعد أن وضع شباكًا واقيًة من الحشرات على جزئها الأيمن، وتجاهل الأيسر لعدم كفاية الأموال مُكتفيًا بتجنب فتح زجاجها والتهوية من الجانب الأيمن.

 

تسلل منها نور الصباح على وجه سمين في نهاية ثلاثيناته، فبدأ بحك لحيته ونهض على استحياء. روتينه اليومي معروف سيُشعل قداحته ليُدخن مع فنجان قهوة، ثم ينطلق للعمل، حيث يضع كمية هائلة من الفلافل الساخنة والباذنجان المقلي والفول في جوفه، ثم يصرخ على مساعده ليحضر له مهام اليوم.

 

ولكن دقات صغيرة متتالية على باب الشقة، حطمت روتين الرجل وسربت الغضب إلى نفسه مُبكرًا. جر وزنه الثقيل ليفتح الباب ولكنه لم يجد أحدًا أمامه، بدلًا من ذلك وجد صوتًا صغيرًا يقول “أنت العم يمان مُستخرج الظلال؟”.

 

كان ولد يرتجف كالفأر المُبلل في ليلة شتوية، ينظر إليه في استعطاف، بينما صُعق الرجل مما سمع. سنحتاج هنا للعودة للوراء قليلًا، ليس على الكرسي الذي تجلس عليه يا ذكي، أقصد في الزمن، ولكن من أين أبدأ معك؟ 

“يمان” كان مُستخرج الظلال الأفضل في البلاد منذ خمس سنوات، و…

ماذا؟ تسأل ما هو مُستخرج الظلال؟! كيف لم تسمع بهم من قبل؟ هل أتيت من المريخ؟

لا بأس، عد معي في الزمن لمرحلة أبعد وستفهم من هم.

 

ساحة محكمة استعدت لتُطبق فيها العدالة في صباح السادس عشر من يناير للعام 2020، انهمرت أدلة الادعاء على المتهم كالمطر الغزير، وبينما استمع القاضي في اهتمام، حاول المحامي بأظافره إثبات براءة “شاكر” من قتل صديقه المُقرب، الذي تعرض لطعنة نافذة في الصدر أودت بحياته.

 

الصديق القتيل كان صانع المحتوى “أحمد” نجل رجل الأعمال “عقاب أبو شامة”، الذي يمتلك العديد من المصانع والشركات، وله نفوذ كبير مع أكبر رجال السياسة وصناع القرار، وعليه زحف الصحفيون من كل حدب وصوب لتغطية القضية، وخصصت منصات التواصل الاجتماعي مساحات واسعة للحديث عنها، وذلك الضبع الغادر “شاكر” الذي طعن صديقه من الخلف.

 

كان هناك العديد من مقاطع الفيديو المؤثرة بالأبيض والأسود، مع الموسيقى الحزينة لصُناع محتوى يتحدثون عن الغدر وكيف أصبحت الدنيا مكانًا مُخيفًا. كم أكره هذه المقاطع من كل قلبي!

 

تعلق “شاكر” كالغريق في وسط بحر هادر بشهادة العم سلطان، المُربي الخاص بصديقه “أحمد” والذي حين تقدم في السن وأصابه المرض، طلب “أحمد” من والده أن يأتي ليعيش معهم في المنزل؛ فالرجل لم يتزوج وليس لديه من يرعاه، وقد قضى حياته كلها في خدمة العائلة.

 

رفض والده في البداية، ولكن مع إلحاح “أحمد” وافق بشرط أن يكون “أحمد” هو المسؤول الأول عن رعايته في شقته الخاصة، وليس منزل العائلة.

ولكن كانت هناك مشكلة في العم سلطان، وهي أن الشاهد الوحيد في قضيتنا يُعانى من المرض “ألزهايمر”، وبالتالي هو بإمكانه تذكر ما حدث معه قبل خمسين عامًا، ولكن ما حدث يوم الجريمة، لا أعتقد ذلك.

 

وعليه لم يكن غريبًا حين طالب الادعاء برفض صعود العم سلطان للمنصة كشاهد، والحكم بعقوبة الإعدام على “شاكر”، الذي لم تعد قدماه قادرة على حمله، وسقط على ركبتيه في يأس بعد أن بح صوته من الصراخ بأنه لم يقتل “أحمد” ولا يستطيع أن يفعل ذلك بصديق طفولته.

 

وعلى حين غرة دخل المحكمة شاب وسيم يرتدى ملابس أنيقة ويخطو بثقة كالسهم الذي يعرف هدفه بمنتهى الدقة، لم يكن يبحث عن الأضواء بل كانت هي التي تلاحقه أينما ذهب، وبثبات منقطع النظير رفع يده اليمنى أمام القاضي، ليسمح له الأخير بالتحدث، فقال: هل يُمكن أن تسمح عدالة المحكمة لمُستخرج الظلال بالتدخل؟

 

تأكد القاضي من هويته ثم سمح له بأن يأتي بما عنده، وضع الرجل الذي لم يكن سوى صديقنا “يمان” يده على رأس العم سلطان في تركيز شديد، ولم تمض سوى لحظات حتى بدأ جسد العجوز ينتفض وكأنه يتعرض لصدمة كهربائية، حتى انتهى “يمان” مما كان يقوم به وابتعد عن العم سلطان أخيرًا.

 

فقد العم سلطان وعيه لدقيقة، ثم فتح عينيه كالعائد من الموت، قبل أن يقف على قدميه دون الحاجة لعكازه، ناظرًا في وجه القاضي بثبات، وقال: كنت أجلس في صالة الشقة حيث أعطاني “أحمد” الدواء وتحدث معي قليلًا، لم أكن أتذكره ولكن هذا الفتى كنت أشعر بشيء من الألفة تجاهه؛ ولذلك لم يكن ينتابني أي خوف حين أتواجد بقربه، وبينما هو يتحدث معي دق جرس الباب، وكان الطارق هو السيد “بارق” شقيق السيد “عقاب”.

 

تابع العم سلطان شهادته قائلًا: خاطب “بارق” ابن أخيه “أحمد” بغيظ وهو يقول، عشرة سنوات أعمل على رفع اسم تلك الشركات، كنت أسافر شهورًا في جميع أنحاء البلاد بل وحتى حول العالم لمتابعة العمل وجني الملايين لعائلتنا، وبعد كل هذا الجهد، يتجاهلني أبوك ويجعلك أنت أيها النكرة في منصب أعلى مني!

 

“أحمد” حاول تهدئة عمه في البداية ولكن مع توالي الإهانات، بدأ يتحدث بحدة موضحًا لعمه أنه الوريث للشركات والمصانع بعد أبيه، وبالتالي وضعه في منصب داخل شركات أبيه أمر منطقي، ليضغط “بارق” على أسنانه وقد جن جنونه تمامًا، ويقول بصوت أشبه بفحيح الحية الوريث! الوريث!

وبدون أي مقدمات أخذ السكين الذي كان موجودًا على الطاولة، وباغت ابن أخيه بطعنة في الصدر قضت عليه في لحظة واحدة. 

 

وقف “بارق” لحظات ليتأمل جثة ابن أخيه وعينيه تكاد تخرج منها نيران حارقة قادرة على تحويل جثة ابن أخيه المسكين إلى رماد، ثم نظر تجاهي في استهزاء، والتقط هاتف “أحمد” ليُرسل رسالة إلى صديقه “شاكر” طالبًا منه الحضور إلى المنزل فورًا.

 

مر بعض الوقت حتى وصل “شاكر” ملهوفًا على صديق عمره، وكان مُتعجبًا حين وجد باب الشقة مفتوحًا ولما رأى “أحمد” غارقًا في دمائه، شهق في رعب، قبل أن يضربه “بارق” على رأسه، ليسقط على جثة صديقه فاقدًا للوعي، ثم ترك الشقة ورحل.

 

أتم العم سلطان هذه الكلمات ثم سقط على الأرض فاقدًا للوعى، ربما تتسائل كيف نجح العم سلطان في تذكر مُلابسات الجريمة بتلك التفاصيل، هذا هو عمل مُستخرج الظلال يا صديقي حيث يُبحر في عقولنا بحثًا عما غرق في اللاوعي من أفكار وآمال أو سر قد غدرت به أمواج النسيان، فيُلقي له بسترة النجاة مُخرجًا إياه على شاطئ الوعي مُجددًا.

 

عمل مستخرجي الظلال كان غير قابل للتشكيك فقد كانوا معتمدين من جميع الهئيات في البلاد، وعليه أصدر القاضي أمرًا بضبط وإحضار “بارق” وتوجيه تهمة قتل ابن أخيه إليه، وبراءة “شاكر” من تهمة قتل صديقه، ليُغادر “يمان” قاعة المحكمة وهو محور الحديث الأول لجميع الصحف والبرامج التلفزيونية ومنصات التواصل الاجتماعي، وتسابق الجميع على الظفر بكلمة واحدة منه، بينما كان يكتفي بالنظر إليهم في ثقة، فلم تكن القضية الأولى التي يحلها، والكل يعرف من هو “يمان سليمان” مُستخرج الظلال الشهير الذي حل المئات من القضايا وكشف العديد من الأسرار.

 

التقت عينا “يمان” بعيني أخيه “عمار” فتعانق الشقيقان في مرح، ثم تحركا سويًا في خفة نحو المطعم حيث المأدبة الشهرية التي تجتمع عليها العائلة، ذهب “يمان” إلى دورة المياه لدقيقة واحدة وحين عاد وجد مُختلًا يُشهر مسدسه نحو عائلته ويقول في نبرة جنونية “لم يكن عليك التدخل يا مستخرج الظلال”، وانطلقت الرصاصات الغادرة لتحصد أرواح أم “يمان” وزوجته التي كانت تحمل في بطنها نجله المُنتظر وشقيقه عمار”.

 

فقد “يمان” صوابه واندفع بكل قوته نحو “بارق” وبدأ يكيل له اللكمات وكأن وجه ذلك القاتل صار كيسًا للملاكمة. الشيء الوحيد الذي جعلنا نُميز أنه وجه إنسان، تحوله للون الأحمر مع تدفق الدماء من جروح وجهه الكثيرة جراء لكمات “يمان”، الذي لم يتركه إلا حين خارت قواه من توجيه اللكمات، وألقى جسده على أمه مُحتضنًا إياها، بينما تتأمل عيناه أخيه وزوجته، ثم أطلق صرخة ألم تنخلع لها القلوب من مكانها.

 

وهكذا تحول “يمان” من مستخرج الظلال الأول في البلاد، إلى ما هو عليه اليوم، حيث يعمل في وظيفة مكتبية، ويتناول كميات هائلة من الطعام، ويتنفس دخان السجائر بدلًا من الهواء الطبيعي، وصار عنده كرشًا كبيرًا جعله يبدو كالدب الذي تجده في محلات لعب الأطفال المحشو بالكثير من القطن. الآن قد أخبرتك من هو مستخرج الظلال، وما حدث مع “يمان” قبل يوم قصتنا، لنعد الآن إلى ما حدث له مع ذلك الزائر الصغير.

 

هم “يمان” بالصراخ على الطفل، ولكن يداه الصغيرتين لم تُمهله الوقت الكافي لذلك، فقد التفت حول قدمه بينما اشتد بكاء الولد وصراخه بعبارات لم يُميز منها “يمان” سوى “ساعد (عامر) أرجوك يا عم”.

 

حمل “يمان” الصغير إلى داخل الشقة، تاركًا الباب مفتوحًا خلفه، ووضع الولد على كرسي ثم قدم له بعض الماء، وقال: اسمع يا صغيري هذا الأمر خلف ظهري الآن، عد إلى بيتك و…

 

قاطعه بكاء الطفل وصوت تحطم كوب الماء الذي سقط من يديه على الأرض، وبدأ الطفل يقول “سيموت إن لم تساعده سيموت”، ومع شدة بكاء الولد وخوف “يمان” من فضيحة قد تحدث له بسببه طلب منه الهدوء والتحدث.

 

في هذه المرحلة لم يكن “يمان” يحتاج القهوة ليفيق على أي حال. قال الولد في صوت مُرتعش: “عامر” هو أخي الكبير وبمثابة والدي، أعيش معه وزوجته وابنه الصغير “لولو”، وهو يُكافح بين وظيفتين، ويدخر المال في خزانة أحد البنوك لأن “لولو” مُصاب بالسرطان ولا نملك المال لعلاجه.

 

بدأ الاهتمام يتسرب لعقل “يمان” بينما تابع الصغير وهو يتشنج، “لولو” كان سيخضع لجراحة بعد غد، وقد نسي “عامر” أين وضع الورقة التي فيها الأرقام السرية للخزانة، والمصرف يرفض فتحها دون تقديم طلب للشرطة وإجراء تحقيق، أو يحضر لهم رقمها، ثم تابع الصغير في نحيب: “لولو” إذا لم يدخل للجراحة في الموعد سيموت، وأنا أحب “لولو” كثيرًا ولا أريد أن أفقده.

 

ربت “يمان” على كتف الصغير سائلًا إياه عن اسمه، فرد “هادي” بينما اندفع المخاط منه في وجه “يمان” الذي مسح وجهه في صبر، وقال: أنا توقفت عن هذا العمل يا “هادي” اطلب من أخيك الذهاب لمكتب مستخرجي الظلال وسيحصل على المساعدة.

 

من جديد استمر بكاء الولد، بينما تمتم “يمان” حقًا ليس للجميع من اسمه نصيب، هذا هادي؟!

قال الولد: لا وقت لنحصل على دور هناك، كما أن الأموال لا تكفي معنا، أرجوك يا عم، كان “عامر” يروي لي الكثير من القصص عنك قبل نومي، أنت بطلي الأول وحلمي أن أصير مثلك.

 

هتف “يمان” في استنكار: بطلك الأول؟! أخبرني كيف عثرت علي أصلًا؟! لمعت عينا “هادي” في فخر، حسنًا حالفني الحظ، أنت تشتري فطورك كل يوم من المطعم الواقع أمام مدرستي، صحيح أن شكلك قد تغير عن صورك التي أعلقها في غرفتي، ولكن كيف لا أميز بطلي؟!

 

رغبت كثيرًا في التحدث إليك ولكن كنت أخجل منك، وبالأمس راقبتك حتى علمت أين تعمل، ولم أذهب للمدرسة منتظرًا إياك حتى أنهيت دوامك، ثم مشيت خلفك دون أن تشعر بي حتى هنا، وحين اشتد الأمر على أخي قررت أن أطلب المساعدة من أسطورتي “يمان” قبل الذهاب للمدرسة.

 

نظر “يمان” نحو “هادي” في صبر وهو يقول، كما أخبرتك أنا لا استطيع العمل كمستخرج للظلال مرة أخرى، هيا عد إلى بيتك، أتمنى أن يصبح “لولو” بخير في أقرب وقت.

 

إلا أن “هادي” باغت “يمان” وهو يصرخ باكيًا بينما يقول، “ألا تعرف أيها الرجل معنى أن تخسر شخصًا تحبه؟!”، ليلتفت نحوه “يمان” في عنف ويمسكه من قميصه، موجهًا إياه نحو الحائط في غضب، ولكن حين حدث اللقاء بين عينيه وعيني الصغير، حتى تسللت الدموع من عيني “يمان”، وفقد رباطة جأشه ليسقط على ركبتيه باكيًا، فما قاله الصغير قد فتح جرحًا قديمًا لم يلتئم في نفس “يمان” أبدًا.

 

حاول “يمان” استجماع قواه، وأن يلتقط أنفاسه، ويقف على قدميه مرة أخرى، ولكن يدًا صغيرةً ربتت على كتفه، بينما نظر صاحبها إليه في استعطاف شديد، وهو يقول: آسف يا عم يمان إن قلت شيئًا أزعجك، ولكني أرجوك، لا أريد خسارة من أحب.

 

زفر “يمان” في مرارة وهو يقول حسنًا يا هادي سأفعلها.

ليصرخ “هادي” فرحًا: نعااااااااااااااااااااااااام يماااااااان سيساعد عامر، يمان سيساعد عامر، وبدأ بجر الرجل نحو الباب قائلًا: هيا “لولو” ينتظر.

 

حمل “يمان” الفتى من قفاه قائلًا بحزم، صبرًا لأبدل ملابسي توقف عن الصراخ، ليهدأ الفتى تمامًا. قبل أن يدخل “يمان” غرفته مُتأملًا نفسه أمام المرآة وهو يقول “مرة واحدة فقط، مرة واحدة أخيرة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!