رسائل قلبية

فقدتك

مريم رجب

لم أتخيل يوما أن تمر بي الأيام وأجلس الآن أسرد الجانب الهش في شخصيتي، كنت حينها لم أبلغ السابعة بعد عندما رأيته يدخل من الباب ممسكًا بيدها ناسيًا كل ما حدث، استنكرت موقفه وقتها كيف تجاوز غيابها بكل هذه السرعة كيف انتهى حزنه فى هذه الفترة القصيرة أم أن هذا كان زيفًا.

خاطبني مشيرًا إليها هذه أمك الجديدة، لا أستطيع وصف مشاعري وقتها فقد كنت صغيرًا على ذلك، ولكنى أتذكر صمتي إبان كلامه الذى لم أسمع منه كلمة واحدة بعد تلك الجملة، لقد أخبرني أن أمي رحلت ولن تعود ولكن لم يخبرني أنه يمكن استبدالها، هذا أول ما زرعه في والدي أن المرأة يمكن أن تحل محلها أخرى وأنها لا تستحق الحزن كان هذا أول مظهر من مظاهر القسوة التى قدمها لي والدي ولو بشكل غير مباشر.

هنا بدأت التساؤلات هل ستفعل أمي الجديدة ما كانت تفعله أمي القديمة هذا ما كنت أنتظر أن أجده وهذا لم يحدث إطلاقًا، جلست أنتظر في غرفتي ليلتها أن تأتي تلك الأم البديل لتحتضنني قبل أن أنام وتسرد لي قصة بحب وحنان كما كانت تفعل أمي ولكن لم تفعل، كانت هذه أول الخيبات وأول الليالي التى بت فيها منتظرًا شيئًا من أحد ولم يحدث فقد كانت تفعل أمي ذلك دون انتظار منى أو طلب، أذكر أول يوم ذهبت فيه إلى المدرسة ذهبت بمفردي فى حين كل الأطفال تحتضنهم أمهاتهم وتحمل حقائبهم وتهدئ من خوفهم أما أنا فكنت لا أدرى هل أحمل حقيبتي أم هي التي تحملني وتحتضنني كنت خائفًا تائهًا ومنطويًا وظللت هكذا أبدًا.

كبرت وأنا أكره تلك المرأة أكره إخوتي وأكره أبي الذى لم يكن عوضًا أبدًا أبي الحاضر الغائب الذى لم يزر قبر أمي قط منذ وضعها به كبرت وتخرجت وتزوجت لأرحل عن عائلة لا أنتمى لها، وكانت تنتظر منى زوجتي الحب والحنان والعطف كأي زوجة تنتظر تلك الأشياء من زوجها ولكن إذا بحثت عن تلك المعانى بين دفتي أيامي لا أجدها، كيف تنتظر من رجل لم ينل من الحنان جُرعةً طيلة خمسة وعشرون عامًا، سَئمت ومَلت منى ولم أكترث مضيتُ بقسوتي أفعل ما أفعل، كنت سيئًا واعتدت سوئي وألفته ولم أعرف للحب طريق، إلى أن جاءت هي، لم يخطر لى ببال قط أن أعشق فى حياتي سوى أمي ولكن أتت هيا لتذهب سريعًا قبل أن أروي صحراء الحب التى دامت بقلبي سنوات، رحلت قبل أن تشبعني بالحنان الذى لطالما افتقدته، رحلت سريعًا بدون وداع كأمي تمامًا، أتذكر يوم ولادتها عندما نظرت إليها النظرة الأولي كانت ملامحها تشبه ملامح أمي للغاية، تلك الملامح التى حفرتها بذاكرتي عندما ألقيت عليها النظرة الأخيرة وهى فى فراش الموت.

شتان ما بين تلك النظرة الأولي وسعادتها والنظرة الأخيرة وألمها، كنت أظن أن القدر قد عوضني بك لأنسى آلام الماضي، ولكنكِ جئتِ لتجددى ألمي، فألقيت عليك النظرة الأخيرة فى فراش الموت، تمامًا كما ألقيتها من قبل وأنا في السابعة لترحلى وأنتي في السابعة من عمرك أيضًا بعدما ألقيت بداخلي الحياة بمجيئك انتزعتها برحيلك، عدت لأحيا الوجع ذاته والفقد ذاته والمرارة ذاتها تقف فى حلقي..
لم أحب شيئًا فى حياتي إلا فقدته، وكنت قد اعتدت ألا أقترب من شيء حد الحب، ولكن معكِ فعلت، ليتكِ لم تأتِ أأتيتِ لتتركي قلبي فى النزع الأخير بفراقك، فلم يوقظ مواجعي إلا رحيلك ابنتي.

اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات اطلب برنامج ويبو للمدارس والجامعات
error: Content is protected !!