هذه ليست مقدمات حرب إيرانية إسرائيلية كما تصورناها وتعاملنا علي أساسها من الخوف والقلق والتحذير من عواقبها الوخيمة إقليميا ودولياً ..
وانما هي ضربة إيرانية صورية وفق سيناريو تم الإتفاق عليه مسبقا بين طهران والإدارة الأمريكية وفق ما المحت إليه تصريحات بعض كبار المسئولين الأمريكيين منذ أيام من خلال الرسائل المتبادلة بينهما اما مباشرة او من خلال بعض الأطراف الإقليمية الوسيطة وهي ما لم ناخذها وقتها علي محمل الجد واعتبرناها جزءًا من الحرب النفسية الدائرة بين الطرفين .
وكان مؤداها كما حاولت الإدارة الأمريكية إفهام العالم ان تاخذ الضربة العسكرية الإيرانية المتوقعة شكلا انتقاميا في ظاهره كرد علي ما حدث في دمشق ، لكنها في حقيقتها لن تكون اكثر من رد فعل عسكري محدود في مداه ومنضبط للغاية ولينتهي الأمر بعدها عند هذا الحد ويتوقف ..
وهو ما حدث بالفعل ، اذ لم تحدث هذه المظاهرة الضخمة من المسيرات والصواريخ الباليستية وصواريخ كروز دماراً يذكر سواء في الأفراد او في الممتلكات ، بعد ان تمكن الإسرائيليون من اعتراضها واسقاط الكثير منها وفق ما تجمع عليه كافة التقارير الدولية .. وهو ما يثير الكثير من التساؤلات حول القدرات الحقيقية لأسلحة الردع الإيرانية .
ويبقي الإحتمال الآخر بأن يكونوا قد نزعوا منها رءوسها الحربية حتي إذا انفجرت لم تخلف اثرا وراءها ، وربما يكون في ذلك تفسير لسبب الغارة الإيرانية التي لم تحدث تحولاً مهما في الموقف الراهن علي اي مستوي.
وإذا كان هذا هو كل ما في الأمر بعد كل هذه الضجة الإعلامية الدولية الصاخبة التي شغلت العالم كله في الأيام الأخيرة واثارت قلقه وفتحت الباب واسعا أمام مختلف التكهنات والتخمينات والمراهنات ، فإن ما حدث بهذه الصورة غير المتوقعة من حيث كثافتها الملفتة وقلة جدواها يحمل الكثير من الدلالات والابعاد السياسية والإستراتيجية .
فما حدث وان كنا نتصور أنه قد جنب المنطقة الكثير مما لم تحمد عقباه فيما لو ان الضربة العسكرية الإيرانية كانت قد تمت بشكل مباشر ومؤثر وموجع ..
إلا ان ابرز تلك الدلالات في رأيي هو ان ما حدث قد خذل الكثير من التوقعات حول دور قوة إيران في تصحيح الكثير من الاختلالات الحادة في موازين القوة الإقليمية لصالح فلسطين وشعبها ، وفي الحد من غطرسة القوة الإسرائيلية ، بل ويكاد يكون قد نسفها من أساسها فإيران لا تبحث إلا عن أمنها وهذا حقها ، لا ينازعها احد فيه كدولة ذات سيادة وهي الأقدر علي التعامل مع ما يفرضه عليها واقعها وظروفها ، لكن عليها بالمقابل ان تترك غيرها في حاله يبحث عن حلول ذاتية لازماته وهذا حقه علي نفسه هو الآخر.
وهو ما يعني ان هذا المشهد الإقليمي البائس برمته يجب ان يتغير في كافة تفاصيله بعد ان أوصل المنطقة إلي هذا المستوي من الفوضي والتخلف والفقر والتبعية والخراب والفشل وان كل دولة يجب ان تلتفت إلي مشكلاتها وازماتها الداخلية وان تحسن استخدامها لمواردها وطاقاتها وقدراتها الذاتية ، بدلاً من تكون مصدرا لأزمات ومشكلات غيرها من دول الجوار بتدخلاتها وبتهديداتها السافرة والمبطنة لها من خلال اذرعها ووكلائها وما اكثرهم ..
وان لعبة الخداع والتهويش بالمليشيات الطائفية المسلحة واستعراضات القوة التي تجري علي قدم وساق طول الوقت وبما لا مثيل له في اي منطقة اخري من العالم يجب ان تتوقف وتنتهي بعد ان اتضحت حقيقتها وفقدت جدواها ، وان التعامل مع المستقبل وتحدياته يجب ان يكون بانماط جديدة من العلاقات والسلوكيات البناءة .. علاقات قوامها التعاون لا الصراع ، والتفاهم لا الخلاف ، والتنسيق والتشاور لا التباعد والانقسام.
وما نقوله ليس إسرافا في الخيال ، وانما هو ممكن إذا ما توافرت الإرادة وخلصت النوايا وصحت العزائم والهمم وهذا هو دور الزعامات والقيادات والنخب الحاكمة ، فهذا هو دورها قبل ان يكون دور غيرها.
وإذا كان هذا هو اهم ما كشفت عنه هذه المواجهة العسكرية الأخيرة بين إيران وإسرائيل ، فإن كل الاهتمامات العربية والدولية يجب ان تتحول من جديد باتجاه غزة التي دفعت وما تزال تدفع ثمنا لم يدفعه شعب آخر في العالم ..
وهذه هي مشكلتنا الحقيقية التي من اجلها يجب ان تتضافر كل الجهود لإنقاذ شعب عربي يناضل ببسالة أسطورية منقطعة النظير من اجل حريته والدفاع عن هويته الوطنية ويتعرض للإبادة الجماعية والتهجير القسري من دياره علي يد عصابة الإرهابيين النازيين الجدد التي تحكم في تل ابيب.
وهذه مسئوليتنا كعرب قبل ان تكون مسئولية إيران او حزب الله او غيرهم .. اعرف ان ما اقوله هو مجرد صرخة في واد لكن ما علي الرسول إلا البلاغ كما يقولون .