ابداعات

«صراعٌ»

 

ملك كرم الهواري.

 

في ظلالِ الزمان، تنطوي الصفحات، تتبدَّل الأوراق وتهترئ، ُقد تُنتزع الكلمات، لكن لا يفنى المضمون، بل يُحفر في العقولِ حتى النهاية، تستمر معركةٌ أبدية، ونخوضها بقلوبٍ متعرجة، بسيوفٍ صدِأة، قد نسقط تارة، نحبو تارة، لكننا لا نتخلى عن سلاحنا، لا نفر من ساحةِ معركةٍ كُتب علينا خوضها، لا نتقهقر خوفًا من النتائج، بل نطالع السماء، ونناجي ربنا بقلوبٍ وجلة ألَّا تهلكنا أنفسنا.

 

ما نحن إلا أعداؤنا، نحارب ذواتنا بسلاحِ الإيابة، ألَّا يهزمنا ضعف نفوسنا؛ فنهلك، ألَّا نسنح للدنيا باقتناصِ الفرص ضدنا، تأخذنا جيئًا وذهابًا بين طياتِ شهواتها، تهوي بنا في غياهبِ الذنوب، فنتيه بلا عودة، وحالما أردنا الرجوع؛ في مهبِ الإغواء نسقط.

 

اهترأت أرواحنا بالخطايا، كسانا الوهن واقتاتت علينا الحيرة، مضينا نخطو ونرجع ألف مرة، لُذنا باللّٰه، تضرعنا بين يديه باكين، نفضنا غبارَ النسيان عنَّا، نزعنا الران عن قلوبنا، ورجعنا إليه ظمأى التوبة، راجين القبول.

 

رجعنا محملين بأثقالِ الدنيا على كهولنا، نذكر كُل خطوةٍ إلى حرامٍ مضيناها؛ فأفسدت على آخرٍ دنياه وأشقته، كُل كلمةٍ لفظناها؛ مزقت قلوبًا في الخفاءِ، كُل قُبحٍ خلف رداء المثالية أخفيناه، أقفالٌ صُفِّدت بها قلوبٌ ماتت رُغم النبض، بيد أنه نبضٌ بلا روحٍ، وأنفاسٌ بلا شعور.

 

«يا ليتني كنتُ طيرًا في العراء، فلا ذنبَ عليَّ ولا الآثام تحويني»

نُرددها كلما تثاقلت خُطُواتنا، كلما تسلل إلينا اليأس من أنفسنا، سادنا الاشمئزاز من أرواحنا، هوى بنا الشيطان في وحلِ القنوط، ثم ضحك بنشوةِ الانتصار قائلًا: أسقطك كما سقطت أنا، لا فرق بيننا يا ابن آدم!

 

أوهمنا الشيطان بفواتِ الوقت، وأننا مغضوبٌ علينا، ما لنا أن نرجع، قد أهلكنا قلوبنا بشرورِ الدنيا وفتنتها، ألقى الشيطان بذرته في أرضنا، ترك زرعته تنبت، رويناها بشهواتنا وأطماعنا، هرعنا نحصدها ونجنيها، مضينا آلاف الخُطُوات لا مرغمين بل بإرادتنا، فالشيطان ما هو إلا بُوصلة، تُومض نحو طريقٍ نحن من نلجه، لا غيرنا.

 

لكننا عباد ضعفاء وهو اللّٰه العظيم، هو القابل لتوبةِ المُذنبين، العفو عن أرواحٍ أشقتها الدنيا، الغفور لذنوبهم وإن رجعوا إليها مرارًا، ولاذوا به فارين منها.

 

هو اللّٰه الجبار لمكسوري الأجنحة؛ فتُحلق أرواحهم في رحابه الواسع، الحليم بهم؛ فيهبهم فرص التوبة والإيابة، يُرشدهم إلى دربهِ الآمن، العليم بخبايا النفوسِ، البصير بحديثِ أفئدة طال ظمؤها ليلًا، السميع لمناجاتهم أن يغفر لهم ما تقدم وتأخر منهم، يُؤمن حروبهم ويسكنهم في كنفهِ، وإن تاهوا في سبل الدنيا الفانية؛ لا ينسون سبيل اللّٰه الذي لا يضله من لاذ به، واحتمى به من شقاءِ الدنيا؛ فكان اللّٰه دليله، من يروِ ظمأهم بنهرٍ جارٍ من الغفرانِ؛ فتطمئن أرواحهم وتسكن.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!