✍️ يوحنا عزمي
الطرح الإسرائيلي الأخير الذي روجت له صحيفة معاريف لا يحمل في جوهره خبرًا بقدر ما يحمل محاولة ضغط سياسي مُغلفة بعبارات توحي بوجود اتفاقات كبرى خلف الكواليس. فالمقالة التي كتبتها آنا بارسكي جاءت بعد توقيع إتفاقية الغاز بين مصر وإسرائيل ، لكنها تعاملت مع هذا الإتفاق وكأنه مفتاح يسمح بتمرير خطوة أخرى أكثر حساسية تتعلق بمعبر رفح ، محاولة الربط بين ملف اقتصادي وبين ملف إنساني ـ أمني شديد التعقيد.
هذا الربط لم يكن بريئاً ، بل كان أقرب لمحاولة صناعة رواية جديدة تُمهد الرأي العام الإسرائيلي والدولي لسيناريو ترغب تل أبيب في الضغط باتجاهه.
المقالة قدمت نتنياهو وكأنه يقود «خطوة دراماتيكية» يجري التحضير لها، تتلخص في فتح معبر رفح من جانب واحد، ولكن للخروج فقط ، وهو ما يعني عملياً دفع سكان من غزة باتجاه الحدود المصرية تحت مظلة “اعتبارات إنسانية” ورقابة أمنية مشددة.
وتُصور الكاتبة الأمر وكأنه جزء من المرحلة الأولى من خطة ترامب المحدثة ، وأن واشنطن تمارس ضغطاً مباشراً على القاهرة ، وأن إتفاق الغاز أعطى – بحسب الصياغة الإسرائيلية– “بنية سياسية” مناسبة لتسهيل هذا الضغط.
ثم تمضي الصحيفة في سرد مجموعة من النقاط التي تحاول إظهار أن التعاون في مجال الطاقة سيقود بالضرورة إلى تعميق التنسيق الأمني ، وأن ذلك سيؤدي إلى تقييد حركة حركة المقاومة في غزة ، وتعزيز السيطرة على الحدود ، ومنع عمليات التهريب.
أي أن معاريف تحاول رسم صورة وكأن مصر مستعدة لقبول دور أمني جديد في القطاع أو على حدوده ، مستفيدة من لحظة سياسية خاصة بعد توقيع الاتفاق.
لكن المفارقة أن المقال ، رغم محاولاته الترويجية ، اضطر إلى الاعتراف بحقائق لا يستطيع تجاوزها : مصر وضعت خطاً أحمر واضحاً. القاهرة ترفض بشكل كامل أي فتح أحادي الجانب للمعبر ، وترفض أي صيغة من صيغ التهجير أو تغيير الواقع الديموغرافي لسكان غزة ، وترفض كذلك أن تتحمل مسؤولية طويلة الأمد عن القطاع. وحتى أي تشغيل محتمل للمعبر في ظروف طارئة ، فلابد أن يكون محدودًا ومنظماً ومقصورًا على شروط أمنية صارمة.
وتشير الصحيفة نفسها إلى أن العوامل التي تعطل أي سيناريو من هذا النوع ليست مصرية فقط ، بل تتعلق أيضاً بحسابات أمنية وسياسية واسعة : آليات تفتيش معقدة ، مخاوف من تهريب السلاح ، وشروط أمنية متبادلة تتعلق بحركة المقاومة. أي أن محاولة تصوير المشهد كأنه اتفاق جاهز في انتظار التنفيذ هو في الحقيقة معالجة إعلامية تميل إلى الخيال أكثر من الواقع.
ومن خلال تفكيك السردية الإسرائيلية ، يتضح أن ما تريد معاريف تمريره هو خلط الأوراق: جذب ملف الغاز إلى قلب الجدل المتعلق بالمعبر، تقديم الخروج من غزة كحل إنساني بينما هو في الحقيقة محاولة نقل الأزمة إلى مصر، وإقحام اسم الرئيس السيسي في سياق يهدف إلى إظهار شراكة غير موجودة ، لخلق انطباع بأن القاهرة جزء من خطة يجري ترتيبها بين واشنطن وتل أبيب.
والحقيقة الواضحة أن كل ما ورد أقرب إلى ضغط إعلامي منه إلى معلومات حقيقية ، ومحاولة لصناعة واقع نفسي يخفف من فشل إسرائيل العسكري والسياسي في غزة من خلال الإيحاء بأن هناك “خطوات كبيرة” قادمة.
في المقابل ، الموقف المصري ثابت منذ اليوم الأول : لا تهجير تحت أي مبرر، ولا استخدام لمعبر رفح كأداة لتصفية القضية ، ولا مساس بالأمن القومي المصري ، ولا قبول بأي تعاون يتم تحت ضغط أو ابتزاز.
وفي المحصلة، المقالة لا تكشف اتفاقاً بقدر ما تكشف قلقاً إسرائيلياً متزايداً ، وتعكس ضغوطًا أمريكية تحاول تل أبيب البناء عليها، وتؤكد في الوقت نفسه صلابة الموقف المصري الذي يدرك تمامًا حدود اللعبة وخطورتها. القاهرة تعرف ما يُحاك جيدًا، وتُدرك أن هذا الباب يجب أن يظل مغلقًا قبل أن يحاول أحد فتحه.




