✍️ يوحنا عزمي
خليني أبدأ من حقيقة تاريخية قاسية لا تحبها الدول ولا تعترف بها الأنظمة إلا بعد فوات الأوان: لا توجد إمبراطورية واحدة سقطت لأنها خسرت حرباً عسكرية فقط ، ولا دولة انهارت لأن عملتها تراجعت أو لأن بورصتها اهتزت ، كل الإمبراطوريات التي سقطت سقطت في اللحظة التي عجزت فيها عن إطعام شعوبها.

الجيوش قد تُهزم ثم تُعاد بناؤها ، والاقتصادات قد تتراجع ثم تتعافى، لكن الجوع حين يدخل البيوت لا يخرج بسهولة، وحين يشعر الإنسان أن الغد غير مضمون وأن لقمة العيش أصبحت عبئاً يومياً لا طاقة له به ، تبدأ الدولة في التفكك من الداخل قبل أن يسقط علمها من فوق القصور.
الدولة لا تنهار لحظة ارتفاع الأسعار فقط ، ولا لحظة زيادة التضخم، ولا حتى عند تراجع قيمة العملة، هذه كلها أزمات يمكن امتصاصها سياسيًا وإعلامياً ، لكن الدولة تبدأ فعلياً في السقوط حين يشعر المواطن أن الطعام لم يعد متوفرًا أو لم يعد في متناول يده ، حين تتحول المائدة إلى مصدر قلق ، وحين يصبح السؤال اليومي ليس عن الرفاهية بل عن البقاء.
من هذه اللحظة ينهار الاقتصاد لأن الطلب يختنق ، وتتآكل السياسة لأن الشرعية تُسحب من الشارع ، ويتفكك الأمن لأن الغضب الجماعي لا يمكن السيطرة عليه طويلًا. الغذاء ليس ملفاً اقتصادياً كما يُسوق له ، بل هو أول وأخطر خط دفاع داخلي لأي دولة.
العالم اليوم يقف على خريطة غير متوازنة لا يحب أحد أن ينظر إليها بوضوح. عدد محدود للغاية من الدول، لا يتجاوز أصابع اليدين ، يسيطر على النسبة الأكبر من صادرات الحبوب عالمياً ، بينما عشرات الدول الأخرى تعتمد على الاستيراد لتأمين أكثر من نصف غذائها ، ومئات الملايين من البشر يعيشون بالفعل على حافة إنعدام الأمن الغذائي.
هذه ليست أرقاماً نظرية ولا تحذيرات أكاديمية، بل معادلة اختلال خطيرة تعني أن العالم مكشوف ، وأن أمن الشعوب مرهون بقرارات سياسية وتجارية تُتخذ في عواصم بعيدة عنها آلاف الكيلومترات.
وحين ننظر إلى الحرب الروسية الأوكرانية نفهم كيف يمكن لطلقة واحدة أن تصيب موائد ملايين البشر. قبل الحرب كانت أوكرانيا تمثل سلة خبز حقيقية لأوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا ، وكانت روسيا لاعباً لا غنى عنه في القمح والأسمدة معًا. بعد إندلاع الحرب لم يكن التأثير مجرد معارك على الأرض ، بل تعطيل موانئ ، وضرب مخازن، وتسييس الشحن ، وتحويل الغذاء من سلعة إنسانية إلى ورقة تفاوض وضغط سياسي.
فجأة أصبح سعر رغيف الخبز في دولة فقيرة مرتبطًا بقرار عسكري أو عقوبة اقتصادية لا علاقة لها بالمستهلك النهائي، وأصبح الجوع نتيجة غير مباشرة لصراع جيوسياسي عالمي.
الأخطر من القمح نفسه هو ما لا يراه الناس عادة : الأسمدة. هذه هي القنبلة المؤجلة في حرب الغذاء. نسبة هائلة من الإنتاج الزراعي العالمي تعتمد اعتمادًا مباشرًا على الأسمدة الصناعية ، وروسيا وبيلاروسيا من أكبر مصدري المواد الأساسية فيها. حين ترتفع أسعار الأسمدة أو تُمنع أو تُقيد، لا يظهر الأثر فورًا ، لا يحدث انفجار لحظي في الأسواق ، لكن بعد موسم أو موسمين تبدأ الكارثة الحقيقية، المحاصيل تتراجع ، الإنتاج ينهار ، والعجز يظهر فجأة دون إنذار.
المجاعة في العصر الحديث لا تبدأ حين يجوع الناس، بل تبدأ قبل ذلك بسنوات في قرارات التصدير والعقوبات وسلاسل الإمداد.
وسلاسل الإمداد الغذائية نفسها شديدة الهشاشة بشكل مخيف. الرغيف الذي يصل إلى يدك هو نتاج شبكة معقدة تبدأ بزرع القمح في دولة ، وتسميده بمنتج قادم من دولة أخرى ، وتخزينه في مكان ثالث ، وشحنه عبر موانئ دولة رابعة ، وتأمينه عبر شركات عالمية ، وتسعيره بالدولار في سوق دولي مضطرب.
اكسر حلقة واحدة فقط من هذه السلسلة ، بسبب حرب أو عقوبات أو أزمة طاقة أو توتر سياسي، فتنهار السلسلة كلها. لهذا السبب الغذاء أخطر من الطاقة ، لأن الطاقة يمكن تعويضها أو ترشيدها مؤقتًا، أما الغذاء فلا يحتمل التأجيل.
ثم يأتي تغيّر المناخ كعدو لا يمكن التفاوض معه ولا ردعه. الجفاف يضرب مساحات شاسعة في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، والفيضانات تدمر المحاصيل وتقطع الطرق وتشل التخزين، وفي كلتا الحالتين يقل المعروض ويرتفع الطلب، فتغلي الأسعار حتى في غياب الحروب. العالم يدخل مرحلة يصبح فيها الغذاء أغلى وأندر ليس فقط بسبب السياسة، بل بسبب الطبيعة نفسها.
لهذا تختلف حرب الغذاء عن أي حرب عرفها البشر من قبل. لا توجد جبهة واضحة ، ولا عدو معلن ، ولا صواريخ تُطلق، لكن نتائجها أشد قسوة : موجات هجرة ، اضطرابات اجتماعية ، ثورات مفاجئة ، وسقوط حكومات كانت تبدو مستقرة. الشرارة دائمًا واحدة، بطن فارغة لا تسمع خطابات ولا تصدق وعودًا.
وفي هذا المشهد ، الرابح الحقيقي ليس الدولة الأغنى ولا صاحبة أكبر احتياطي نقدي ، بل الدولة التي تمتلك الأرض والمياه والإنتاج والقدرة على التخزين وقراراً سيادياً لا يخضع للابتزاز. الدولة التي تستطيع أن تطعم نفسها أقوى ألف مرة من دولة غنية تستورد غذاءها وتعيش تحت رحمة الأسواق والشحن والدولار.
الحرب القادمة لن تبدأ في السماء ولا في البحر ولا على الحدود ، لن نراها على شاشات الرادار ولا في بيانات الجيوش. ستبدأ في المطابخ ، في صمت ، مع أول وجبة تُحذف ، وأول رغيف يُحسب ، وأول شعور جماعي بأن البقاء أصبح مهددًا. والدول التي ما زالت تتعامل مع الغذاء باعتباره ملف دعم وتموين ستكتشف متأخرة جدًا أنه كان ، طوال الوقت ، ملف وجود وبقاء.




