✍️ يوحنا عزمي
الولايات المتحدة اليوم لا تتعامل مع فنزويلا كدولة عادية مختلف معها سياسيًا ، بل كخصم استراتيجي يجب خنقه بالكامل. ما يجري الآن على شواطئ الكاريبي ليس مجرد ضغط دبلوماسي ولا استعراض قوة عابر ، بل أكبر حصار بحري تشهده المنطقة في تاريخها الحديث، وللمرة الأولى في النصف الغربي من الكرة الأرضية يخرج رئيس أمريكي ليُعلن حكومة دولة ذات سيادة على أنها “منظمة إرهابية”. هذه الخطوة وحدها كافية لتفهم أن ما يحدث تجاوز كل القواعد التقليدية للصراع السياسي ، ودخل مرحلة جديدة أكثر خطورة ، لكن الأخطر فعلًا هو أن المشهد لا يقف عند حدود فنزويلا، ولا حتى عند النفط فقط ، بل يمتد بخيوطه إلى غزة ، وإسرائيل، والشرق الأوسط، وإلى ما يُحضر للعالم في السنوات القليلة القادمة.
منذ ساعات قليلة ، أعلن دونالد ترامب أنه فرض ما وصفه بـ“أكبر تطويق بحري في تاريخ المنطقة” حول السواحل الفنزويلية ، وهو إعلان يحمل في مضمونه رسالة واضحة : أي ناقلة نفط تقترب من الموانئ الفنزويلية أو تغادرها أصبحت هدفًا محتملاً.
حصار كامل الأركان ، لكنه مُغلّف بلغة ناعمة عن “مكافحة المخدرات” و“حماية الأمن القومي الأمريكي”. وفي التوقيت نفسه، اتخذ ترامب خطوة أخطر سياسيًا، حين صنّف حكومة نيكولاس مادورو نفسها كمنظمة إرهابية أجنبية، وهي سابقة لم يشهدها هذا الجزء من العالم من قبل، لأنك هنا لا تتحدث عن فصيل مسلح أو جماعة عابرة للحدود ، بل عن دولة كاملة تُعامل قانونيًا وكأنها فرع من تنظيم متطرف.
هذا التصنيف ليس مجرد توصيف إعلامي، بل مفتاح قانوني يفتح الباب أمام كل أشكال التصعيد لاحقًا ، من تجميد أصول ، إلى اعتراض سفن، إلى عمليات عسكرية يمكن تبريرها داخليًا أمام الشعب الأمريكي والكونجرس.
التاريخ الأمريكي نفسه يقول إن هذه الخطوة لا تُستخدم إلا عندما تكون النية مبيتة لنقل الصراع إلى مستوى أعلى، وهو ما يفسر حجم القوة العسكرية التي اندفعت فجأة إلى البحر الكاريبي. ما أرسلته واشنطن ليس دوريات رمزية ولا قطعًا محدودة ، بل أسطول كامل بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تتقدمه حاملة الطائرات العملاقة “جيرالد آر فورد”، الأغلى في تاريخ البحرية الأمريكية ، والتي تبلغ تكلفتها وحدها قرابة 12.9 مليار دولار.
هذه الحاملة لا تتحرك وحدها ، بل يرافقها تشكيل ضخم من المدمرات، والغواصات النووية ، وسفن الإنزال، وجناح طيران كامل يضم طائرات F-35 وF-16 ، إضافة إلى طائرات استطلاع ومسيرات وقاذفات ومنظومات مراقبة ودعم لوجستي. مجرد تشغيل هذه المنظومة دون أي اشتباك يكلف الولايات المتحدة ملايين الدولارات يوميًا، وتشير التقديرات إلى أن إجمالي العملية يحرق ما يقارب 200 مليون دولار في اليوم الواحد.
هنا يفرض السؤال نفسه بقوة : هل يعقل أن تُنفق دولة كل هذه المليارات لمطاردة قوارب تهريب مخدرات؟
وهل من المنطقي أن تُستخدم صواريخ دقيقة التوجيه مثل Hellfire ضد مراكب صغيرة بدعوى مكافحة الجريمة المنظمة؟
الإجابة ببساطة : لا. المخدرات ليست سوى الغطاء، أما الهدف الحقيقي فهو النفط. فنزويلا تمتلك ما يقرب من 303 مليارات برميل من الاحتياطي المؤكد ، وهو رقم يتجاوز احتياطي السعودية نفسها.
نحن نتحدث عن كنز استراتيجي قادر نظريًا على تغطية الاستهلاك العالمي لسنوات متواصلة. هذا النفط ليس مجرد ثروة اقتصادية، بل ورقة قوة جيوسياسية من العيار الثقيل، ولذلك تحوّل من نعمة إلى لعنة.
طبيعة النفط الفنزويلي الثقيلة تحتاج إلى تكنولوجيا متقدمة واستثمارات ضخمة ، ومع العقوبات الأمريكية والإدارة المتعثرة، تراجع الإنتاج إلى أقل من مليون برميل يوميًا، لكنه رغم ذلك لا يزال شريان الحياة الوحيد للنظام. من دون هذه العائدات، لا رواتب، ولا دعم غذائي، ولا قدرة على إبقاء الجيش متماسكًا.
الخطر الحقيقي على نظام مادورو لا يتمثل في إنزال عسكري أمريكي مباشر، بل في خنق صادرات النفط ومنع تدفق الدولار. حين تُغلق حنفية المال، يبدأ النظام في التآكل من الداخل ، وهو سيناريو أقل كلفة لواشنطن وأكثر فاعلية.
لكن هنا يظهر السؤال الأكثر إثارة : ما علاقة إسرائيل ونتنياهو بكل هذا؟ ولماذا يظهر اسم رئيس وزراء الكيان الصهيوني فجأة في ملف يبدو بعيدًا جغرافيًا عن الشرق الأوسط؟
الإجابة تكشف أن ما يحدث أكبر بكثير من فنزويلا.
نتنياهو يعيش مأزقًا داخليًا خانقاً ، بين قضايا فساد، وضغوط سياسية، وفشل في تحقيق اختراقات استراتيجية كبرى في ملف التطبيع ، خاصة مع السعودية.
في هذا السياق ، ظهرت فرصة بدت له ذهبية. المعارضة الفنزويلية تقودها شخصية اسمها ماريا كورينا ماتشادو، استطاعت خلال الفترة الماضية أن تحصد شرعية دولية واسعة، ونجحت في تقديم نفسها كوجه “منقذ” من نظام مادورو. هذه الشرعية فتحت قنوات تواصل غير معلنة، كان من بينها تواصل مباشر مع نتنياهو ، حيث التقت المصالح عند نقطة محورية : العداء المشترك لإيران.
فنزويلا اليوم حليف واضح لطهران وموسكو ، وإسقاط هذا النظام يعني كسر أحد أذرع النفوذ الإيراني في نصف الكرة الغربي. الأهم من ذلك أن ماتشادو قدمت وعودًا سياسية حساسة، من بينها نقل سفارة بلادها إلى القدس في حال وصولها للحكم. بالنسبة لإسرائيل ، هذا ليس تفصيلًا رمزيًا، بل مكسب استراتيجي في معركة كسر العزلة وتفكيك التعاطف التاريخي في أمريكا اللاتينية مع القضية الفلسطينية.
لكن القصة لا تقف هنا. إسرائيل تفكر بعقل الطاقة والخرائط الطويلة المدى. خطوط إمداد الغاز في شرق المتوسط معقدة ومتشابكة ، وبعضها يمر عبر مناطق نفوذ غير مضمونة. وجود نظام صديق في دولة تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم يفتح لإسرائيل باباً جديدًا للضغط والمناورة، ليس فقط اقتصاديًا، بل سياسيًا أيضًا، خصوصًا في مواجهة دول شرق أوسطية لا تزال تربط أي تطبيع بشروط تتعلق بالقضية الفلسطينية.
من هنا ، يصبح تغيير النظام في فنزويلا جزءًا من معادلة أوسع لإعادة ترتيب موازين القوة عالميًا.
لهذا لم تكن تصريحات نتنياهو عن “أحداث ضخمة ستقع في أمريكا الجنوبية” مجرد ثرثرة سياسية ، بل تعبير عن رؤية لمحور جديد يتشكل: يمين شعبوي، مؤيد لإسرائيل، معادٍ لإيران ، ومتقاطع مع الرؤية الأمريكية لإعادة رسم خريطة النفوذ العالمي. وفي هذا السياق ، يصبح التعاون الاستخباراتي والعسكري بين واشنطن وتل أبيب أمرًا شبه حتمي، خاصة مع الضوء الأخضر الذي منحه ترامب لتنفيذ عمليات داخل فنزويلا.
ما يجري اليوم ليس حرب مخدرات ، ولا حتى معركة نفط تقليدية، بل فصل جديد من لعبة شطرنج دولية كبرى، تُحرك فيها الأساطيل وتُدار فيها الأنظمة كأحجار على رقعة واحدة دون أي اعتبار حقيقي لمن سيدفع الثمن في النهاية.
إنها لحظة إعادة تشكيل، لا لدولة واحدة، بل لمسارات كاملة في العالم، ومن لا يقرأها جيدًا الآن، سيفاجأ بنتائجها قريبًا.




