✍️ يوحنا عزمي
حرب السيطرة في القرن الحادي والعشرين لا تبدأ من حقول النفط ، ولا من مصانع السلاح ، ولا حتى من خزائن البنوك التي تتحكم في حركة الدولار. هذه كلها مراحل لاحقة ، نتائج وليست أسبابًا.
البداية الحقيقية تحدث في مكان أكثر هدوءًا وخطورة: الذاكرة. لأن من يمتلك القدرة على إعادة تشكيل ذاكرة شعب ، يستطيع توجيهه والتحكم في قراراته وسلوكه وخياراته دون أن يطلق رصاصة واحدة. فالضربة هنا لا تُوجه إلى الجسد ، بل إلى الوعي ، ولا تستهدف الحاضر فقط، بل تمتد لتعيد كتابة الماضي بما يخدم مسارًا سياسياً أو استراتيجياً معيناً.
في دوائر الاستخبارات الكبرى حول العالم ، هناك قاعدة شبه مقدسة لا يجري تداولها في الإعلام ، لكنها تحكم السياسات الكبرى : لا يمكن إخضاع شعب مدرك لتاريخه وواثق من هويته ، لكن يمكن كسر إرادة شعب مرتبك في ذاكرته، مختلف على روايته ، فاقد للاتفاق حول من هو، ومن كان، ولماذا وصل إلى ما هو عليه الآن.
الذاكرة هنا لا تعني مجرد استدعاء عاطفي للماضي أو حنينًا رومانسيًا، بل هي مزيج معقد من الهوية والشرعية والتصور الجمعي للذات وللآخر. هي الإطار الذي يرى من خلاله المجتمع نفسه والعالم، ويبرر به مواقفه، ويحدد به أعداءه وحلفاءه.
خطورة حرب الذاكرة تتفوق على أي صراع عسكري تقليدي لأنها بلا ملامح واضحة. الحروب التقليدية لها جبهات معروفة ، وخسائر تُحصى، ونهاية تُعلن ، واتفاقات تُوقع.
أما حرب الذاكرة فهي بلا جبهة، بلا إعلان رسمي، بلا توقيع استسلام، وبلا محكمة تحاسب من خاضها. الأسوأ من ذلك أن الضحية غالبًا لا تدرك أنها مستهدفة ، بل تشارك بنفسها في تنفيذ الهجوم، وتتحول من متلقٍ إلى ناقل، ومن ضحية إلى أداة.
حين ننظر إلى الأرقام ببرود ، بعيدًا عن الخطاب العاطفي، تتضح الصورة أكثر. أكثر من ثلثي ميزانيات ما يُسمى بالقوة الناعمة في الدول الكبرى يُوجه إلى التعليم ، والإعلام ، وصناعة المحتوى ، وإعادة صياغة السرد التاريخي.
الولايات المتحدة وحدها تنفق سنويًا مليارات الدولارات على برامج ثقافية وتعليمية وإعلامية هدفها إعادة تشكيل الرواية، ليس فقط داخل حدودها ، بل في العالم كله.
الصين أدرجت السرد التاريخي بشكل رسمي ضمن وثائق الأمن القومي منذ أكثر من عقد ، واعتبرته جزءًا لا يتجزأ من أمن الدولة. روسيا ، من جهتها، تتعامل مع تشويه الذاكرة التاريخية باعتباره تهديدًا استراتيجيًا لا يقل خطورة عن التهديد العسكري المباشر. هذه ليست نظريات مؤامرة، بل سياسات دولة موثقة ومعلنة.
تُخاض هذه الحرب بوسائل تبدو في ظاهرها ناعمة، لكنها في جوهرها قاتلة. التعليم يأتي في المقدمة ، لأنه الأداة الأعمق أثراً والأطول عمرًا. حذف وقائع معينة، إعادة صياغة أحداث ، تغيير ترتيب الوقائع ، اختيار أبطال جدد وإقصاء رموز قديمة ، كلها عمليات دقيقة تُنتج في النهاية أجيالًا تحمل تاريخًا مشوشًا. الطفل الذي ينشأ على رواية مرتبكة يكبر مواطنًا بلا بوصلة، سهل التوجيه، ضعيف المناعة أمام أي سرد بديل.
ثم تأتي السينما والمنصات الرقمية ، التي لم تعد مجرد أدوات ترفيه. الأفلام والمسلسلات تزرع صورًا ذهنية، وتعيد تعريف الخير والشر ، والبطل والجلاد ، والضحية والمذنب. ليس من قبيل الصدفة أن تتحول منصات عالمية كبرى إلى أدوات نفوذ حقيقية، تشارك في تشكيل وعي مليارات البشر دون أن يشعروا.
الخوارزميات تلعب دورًا أكثر خفاءً وخطورة. ما يظهر لك على شاشتك ، وما يختفي ، ليس عشوائيًا. هناك سرديات تُكافأ بالانتشار، وأخرى تُعاقَب بالتهميش، ومع الوقت يتشكل ما يشبه الإجماع الوهمي، فيظن الفرد أن ما يراه هو الحقيقة الوحيدة الممكنة ، بينما هو في الواقع نتاج اختيار دقيق ومقصود.
إسقاط الرموز جزء أساسي من المعركة ، وليس الهدف هنا تصحيح أخطاء الماضي أو نقده بموضوعية، بل قطع الجسر بين الأجيال. حين يفقد المجتمع رموزه ، يفقد مرجعياته، ويتحول إلى كتلة بشرية بلا ذاكرة جامعة ، قابلة لإعادة التشكيل.
تفكيك الهوية لا يحدث دفعة واحدة ، بل عبر التشكيك والسخرية والخلط والتشويش المستمر ، إلى أن يصل المواطن في النهاية إلى حالة من الضياع تجعله يتساءل: من نحن أصلًا؟ وحين يُطرَح هذا السؤال بلا إجابة واضحة، تصبح الدولة نفسها في مهب الريح.
النماذج الدولية تكشف الفارق بين من يدير ذاكرته ومن تُدار ذاكرته. في الولايات المتحدة، هناك صراع داخلي حاد حول التاريخ والرموز ، وحول ما إذا كان الماضي مصدر فخر أم عبئاً أخلاقيًا. النتيجة مجتمع منقسم ، وذاكرة متصارعة، وطاقة داخلية تُستهلك في معارك لا تنتهي.
في المقابل، تتعامل الصين مع السرد التاريخي بمنطق صارم: رواية واحدة ، وذاكرة واحدة ، ونقاش محدود ، لأن وحدة السرد في نظرها تعني وحدة الدولة. أما روسيا، فتستخدم الذاكرة كسلاح دفاعي ، تستدعي من خلاله تاريخ الحصار والحروب لتبرير الألم ، وشرعنة الصدام ، ورفع استعداد المجتمع لتحمل التضحيات.
الأخطر في كل ذلك أن الشعوب تتحول في هذه الحرب إلى ضحية وجندي في الوقت نفسه. المواطن يدافع، ويهاجم، ويشتم، وينشر ، وهو مقتنع تمامًا بأنه يتحرك بوعي كامل، بينما هو في الحقيقة يتحرك داخل إطار ذهني صُمم له بعناية مسبقة.
الدول لا تستثمر في الماضي بدافع الحنين ، بل بدافع البراغماتية الباردة. المستقبل غير مضمون، والاقتصاد متقلب، والتكنولوجيا سريعة التغير ، لكن الذاكرة يمكن هندستها. من يزرع رواية مستقرة يحصد ولاءً طويل الأمد، وصبرًا على الأزمات، واستعدادًا لتحمل الألم، وهي مكاسب لا يمكن شراؤها بأحدث الأسلحة.
الخطر الحقيقي يبدأ حين يختلف الشعب على تاريخه، وتتحول رموزه إلى مادة للسخرية، ويصبح الماضي عبئًا بلا مرجعية. في هذه اللحظة ، تصبح الدولة سهلة الاختراق، وسهلة التفكيك ، حتى لو امتلكت جيشاً قوياً واقتصادًا ضخمًا.
نحن نعيش عصر الحروب بلا مدافع، لكن بخسائر أعمق من أي حرب تقليدية. ومن يظن أن الصراع الحقيقي يدور حول النفط أو الذهب أو العملة ، سيكتشف متأخرًا أن المعركة الحاسمة كانت دائمًا على من يكتب الحكاية. فالشعب الذي يسمح لغيره بكتابة تاريخه، غالبًا لا يخسر الماضي فقط، بل يستيقظ يومًا ليجد مستقبله قد سُرق في صمت.




